للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّهَا تَحْشِرُ شَيْئًا، إِذْ حَاشِرُهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَحَشْرُهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً أَدَلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي لَهُ عَلَى دَاوُدَ، أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَبَلِ وَالطَّيْرِ لِأَجْلِ دَاوُدَ، أَيْ لِأَجْلِ تَسْبِيحِهِ. سَبَّحَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّعُ تَسْبِيحَهُ، وَوُضِعَ الْأَوَّابُ مَوْضِعَ الْمُسَبِّحِ. وَقِيلَ:

الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، أَيْ كُلٌّ مِنْ دَاوُدَ وَالْجِبَالِ وَالطَّيْرِ أَوَّابٌ، أَيْ مُسَبِّحٌ مُرْجِعٌ لِلتَّسْبِيحِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَشَدَدْنا، مُخَفَّفًا: أَيْ قَوَّيْنَا، كَقَوْلِهِ: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ «١» . وَالْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِشَدِّ الدَّالِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ شَامِلَةٌ لِمَا وَهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قُوَّةٍ وَجُنْدٍ وَنِعْمَةٍ، فَالتَّخْصِيصُ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ لَا يَظْهَرُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِالْجُنُودِ. قِيلَ:

كَانَ يَبِيتُ حَوْلَ مِحْرَابِهِ أَرْبَعُونَ أَلْفَ مُسْلِمٍ يَحْرُسُونَهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ فِي الْعَادَةِ وَقِيلَ: بِهَيْبَةٍ قَذَفَهَا اللَّهُ لَهُ فِي قُلُوبِ قَوْمِهِ. والْحِكْمَةَ هُنَا: النُّبُوَّةُ، أَوِ الزَّبُورُ، أَوِ الْفَهْمُ فِي الدِّينِ، أَوْ كُلُّ كَلَامٍ، وَلَقْنُ الْحَقِّ أَقْوَالٌ. وَفَصْلَ الْخِطابِ،

قَالَ عَلِيٌّ وَالشَّعْبِيُّ: إِيجَابُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: الْقَضَاءُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَإِصَابَتُهُ وَفَهْمُهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَلِمَةُ أَمَّا بَعْدُ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا وَفَصَلَ بَيْنَ كَلَامَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّهُ يَفْتَتِحُ إِذَا تَكَلَّمَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتَحْمِيدِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْغَرَضِ الْمَسُوقِ إِلَيْهِ، فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: أَمَّا بَعْدُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْخِطَابِ: الْقَصْدُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِيهِ اخْتِصَارٌ مُخِلٌّ، وَلَا إِشْبَاعٌ مُمِلٌّ وَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصْلٌ لَا نَذِرٌ وَلَا هَذِرٌ. انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ تَعَالَى قَدْ كَمَّلَ نَفْسَ نَبِيِّهِ دَاوُدَ بِالْحِكْمَةِ، أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ كَمَالِ خَلْقِهِ فِي النُّطْقِ وَالْعِبَادَةِ فَقَالَ: وَفَصْلَ الْخِطابِ.

وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ: لَمَّا أَثْنَى تَعَالَى عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا أَثْنَى، ذَكَرَ قِصَّتَهُ هَذِهِ، لِيَعْلَمَ أَنَّ مِثْلَ قِصَّتِهِ لَا يَقْدَحُ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالتَّعْظِيمِ لِقَدْرِهِ، وَإِنْ تَضَمَّنَتِ اسْتِغْفَارَهُ رَبَّهُ، وَلَيْسَ فِي الِاسْتِغْفَارِ مَا يُشْعِرُ بِارْتِكَابِ أَمْرٍ يُسْتَغْفَرُ مِنْهُ، وَمَا زَالَ الِاسْتِغْفَارُ شِعَارَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْعِصْمَةِ. وَمَجِيءُ مِثْلِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ إِنَّمَا يَكُونُ لِغَرَابَةِ مَا يَجِيءُ مَعَهُ مِنَ الْقَصَصِ، كَقَوْلِهِ: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى «٢» ، فَيَتَهَيَّأُ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ لِمَا يَأْتِي بَعْدَهُ وَيُصْغِي لِذَلِكَ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَشْيَاءَ لَا تُنَاسِبُ مَنَاصِبَ الْأَنْبِيَاءِ، ضَرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى أَلْفَاظِ الْآيَةِ. وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ، فَالْخَبَرُ أصله


(١) سورة القصص: ٢٨/ ٣٥.
(٢) سورة طه: ٢٠/ ٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>