مَصْدَرٌ، فَلِذَلِكَ تَصْلُحُ لِلْمُفْرَدِ وَالْمُذَكَّرِ وَفُرُوعِهِمَا، وَهُنَا جَاءَ لِلْجَمْعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِذْ تَسَوَّرُوا: إِذْ دَخَلُوا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَخَصْمٍ يُعِدُّونَ الدُّخُولَ كَأَنَّهُمْ ... قُرُومٌ غَيَارَى كَلُّ أَزْهَرَ مُصْعَبِ
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا جَمَاعَةً، فَلِذَلِكَ أَتَى بِضَمِيرِ الْجَمْعِ. فَإِنْ كَانَ الْمُتَحَاكِمَانِ اثْنَيْنِ، فَيَكُونُ قَدْ جَاءَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ عَلَى جِهَةِ الْمُعَاضَدَةِ أَوِ الْمُؤَانَسَةِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَلَائِكَةً، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ. وَقِيلَ: كَانَا أَخَوَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ.
وَقِيلَ: الْخَصْمُ هُنَا اثْنَانِ، وَتَجَوَّزَ فِي الْعِبَارَةِ فَأَخْبَرَ عَنْهُمَا إِخْبَارَ مَا زَادَ عَلَى اثْنَيْنِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْجَمْعِ فِي التَّثْنِيَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى خَصْمَانِ: فَرِيقَانِ، فَيَكُونُ تَسَوَّرُوا وَدَخَلُوا عَائِدًا عَلَى الْخَصْمِ الَّذِي هُوَ جَمْعُ الْفَرِيقَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَصْمَانِ بِمَعْنَى فَرِيقَانِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: بَغَى بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقَالَ تَعَالَى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ «١» ، بِمَعْنَى: فَأَمَّا إِنَّ هَذَا أَخِي. وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ بُعِثَ إِلَيْهِ مَلَكَانِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ التَّحَاكُمَ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَصْحَبَهُمَا غَيْرُهُمَا. وَأُطْلِقَ عَلَى الْجَمِيعِ خَصْمٌ، وَعَلَى الْفَرِيقَيْنِ خَصْمَانِ، لِأَنَّ مَنْ جَاءَ مَعَ مُتَخَاصِمٍ لِمُعَاضَدَةٍ فَهُوَ في سورة خَصْمٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُطْلَقَ عَلَيْهِ التَّسْمِيَةُ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ، وَهُوَ إِذْ أَتَاكَ، قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَرَدَ بِأَنَّ إِتْيَانَ النَّبَأِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي عَهْدِهِ، لَا فِي عَهْدِ دَاوُدَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ: الْعَامِلُ فِيهِ نَبَأٌ وَرُدَّ بِمَا رُدَّ بِهِ مَا قَبْلُهُ أَنَّ النَّبَأَ الْوَاقِعَ فِي عَهْدِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَصِحُّ إِتْيَانُهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذَا أَرَدْتَ بِالنَّبَأِ الْقِصَّةَ فِي نَفْسِهَا، لَمْ يَكُنْ نَاصِبًا. وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَهَلْ أَتَاكَ تَخَاصُمُ الْخَصْمِ؟ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِالْخَصْمِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ. وَإِذْ دَخَلُوا بَدَلٌ مِنْ إِذْ الْأُولَى وَقِيلَ: يَنْتَصِبُ بِتَسَوَّرُوا.
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ فِي صُورَةِ إِنْسَانَيْنِ، فَطَلَبَا أَنْ يَدْخُلَا عَلَيْهِ، فَوَجَدَاهُ فِي يَوْمِ عِبَادَتِهِ، فَمَنَعَهُمَا، فَتَسَوَّرَا عَلَيْهِ الْمِحْرَابَ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا وَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ جَالِسَانِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَزَّأَ زَمَانَهُ أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ: يَوْمًا لِلْعِبَادَةِ، وَيَوْمًا لِلْقَضَاءِ، وَيَوْمًا لِلِاشْتِغَالِ بِخَوَاصِّ أُمُورِهِ، وَيَوْمًا لِجَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيَعِظُهُمْ وَيُبْكِيهِمْ.
فَجَاءُوهُ فِي غَيْرِ الْقَضَاءِ، فَفَزِعَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَيْهِ مِنْ فَوْقٍ، وَفِي يَوْمِ الِاحْتِجَابِ، وَالْحَرَسُ حَوْلَهُ لَا يَتْرُكُونَ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ، فَخَافَ أَنْ يُؤْذُوهُ. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ لَيْلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَزَعُهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ
(١) سورة الحج: ٢٢/ ١٩.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute