للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنَ النِّسْيَانِ ضِدِّ الذِّكْرِ، فَالْمَعْنَى: نُنْسِكَهَا إِذَا كَانَ مِنْ أَفْعَلَ، أَوْ نُنْسِهَا إِذَا كَانَ مَنْ فَعَلَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ التَّرْكِ، فَالْمَعْنَى: أَوْ نَتْرُكْ إِنْزَالَهَا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، أَوْ نَمْحُهَا، فَلَا نَتْرُكْ لَهَا لَفْظًا يُتْلَى وَلَا حُكْمًا يُلْزِمُ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَوْ نَأْمُرْ بِتَرْكِهَا، يُقَالُ: أَنْسَيْتُهُ الشَّيْءَ:

أَيْ أَمَرْتُ بِتَرْكِهِ، وَنَسِيتُهُ: تَرَكْتُهُ، قَالَ:

إِنَّ عَلَيَّ عُقْبَةً أَقْضِيهَا ... لَسْتُ بِنَاسِيهَا وَلَا مُنْسِيهَا

أَيْ لَا آمُرُ بِتَرْكِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قِرَاءَةُ نُنْسِهَا، بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَكَسْرِ السِّينِ، لَا يَتَوَجَّهُ فِيهَا مَعْنَى التَّرْكِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: أُنْسِيَ بِمَعْنَى تَرَكَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَغَيْرُهُ: ذَلِكَ مُتَّجِهٌ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى نَجْعَلُكَ تَتْرُكُهَا. وَكَذَلِكَ ضَعَّفَ الزَّجَّاجُ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى النِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَسِيَ قُرْآنًا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ: ذَلِكَ جَائِزٌ، وَقَدْ وَقَعَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تُرْفَعَ الْآيَةُ بِنَسْخٍ أَوْ بِنَسْئِهِ. وَاحْتَجَّ الزَّجَّاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ «١» ، أَيْ لَمْ نَفْعَلْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَعْنَاهُ لَمْ نَذْهَبْ بِالْجَمِيعِ، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ قَوْلَ الزَّجَّاجِ عَنْ أَقْدَمَ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا أَنَّ نِسْيَانَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، لِمَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَاهُ، وَلَمْ يُرِدْ أن يثبته قرآنا جائزا.

وَأَمَّا النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ آفَةٌ فِي الْبَشَرِ، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنْهُ، قَبْلَ التَّبْلِيغِ، وَبَعْدَ التَّبْلِيغِ، مَا لَمْ يَحْفَظْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ أَنْ يُحْفَظَ، فَجَائِزٌ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْبَشَرِ، لِأَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَمِنْهُ

الْحَدِيثُ، حِينَ أَسْقَطَ آيَةً، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ: «أَفِي الْقَوْمِ أُبَيٌّ؟» قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَلِمَ لَمْ تُذَكِّرْنِي؟» قَالَ: خَشِيتُ أَنَّهَا رُفِعَتْ» . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «لم تُرْفَعْ وَلَكِنِّي نَسِيتُهَا» .

انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْهَمْزِ فَهُوَ مِنَ التَّأْخِيرِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: نَسَأْتُ الْإِبِلَ عَنِ الْحَوْضِ، وَأَنْسَأَ الْإِبِلَ عَنْ ظَمَئِهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ أَخَّرَهَا عَنِ الْوِرْدِ. وَأَمَّا فِي الْآيَةِ فَالْمَعْنَى: نُؤَخِّرْ نَسْخَهَا أَوْ نُزُولَهَا، قَالَهُ عَطَاءٌ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، أَوْ نَمْحُهَا لَفْظًا وَحُكْمًا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَوْ نمضها فَلَا نَنْسَخْهَا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَهَذَا يُضْعِفُهُ قَوْلُهُ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها، لِأَنَّ مَا أُمْضِيَ وَأُقِرَّ، لَا يُقَالُ فِيهِ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا تَقْدِيرُهُ: مَا نُبَدِّلْ مِنْ حُكْمِ آيَةٍ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا، أَيْ أَنْفَعَ مِنْهَا لَكُمْ، أَوْ مِثْلِهَا. ثُمَّ قَالَ: أَوْ نَنْسَأْهَا، أَيْ نُؤَخِّرْهَا، فَلَا نَنْسَخْهَا وَلَا نُبَدِّلْهَا.

وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ لَا تَصِحُّ عَنْ ذَلِكَ الْحَبْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِذْ هِيَ مُحِيلَةٌ لِنَظْمِ القرآن.


(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٨٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>