للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَجْرَامٍ مَرْئِيَّةٍ، وَلَوْ كَانَتْ أَرَأَيْتَ الَّتِي هِيَ اسْتِفْتَاءٌ لَمْ تَتَعَدَّ. انْتَهَى. وَيَعْنِي بِالْأَجْرَامِ: اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، وأ رأيت الَّتِي هِيَ اسْتِفْتَاءٌ تَقَعُ عَلَى الْأَجْرَامِ، نَحْوَ: أَرَأَيْتَ زَيْدًا مَا صَنَعَ؟

وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كَانَتْ أَرَأَيْتَ الَّتِي هِيَ اسْتِفْتَاءٌ، يَعْنِي الَّذِي تَقُولُ النُّحَاةُ فِيهِ إِنَّهَا بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، لَمْ تَتَعَدَّ وَالَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْتَاءِ تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، أَحَدُهُمَا مَنْصُوبٌ، وَالْآخَرُ فِي الْغَالِبِ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ. وَقَدْ تَكَرَّرَ لَنَا الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ، وَأَوَّلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَدَلَّ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُطَالِعْ مَا قَالَهُ النَّاسُ فِي أَرَأَيْتَ إِذَا كَانَتِ اسْتِفْتَاءً عَلَى اصْطِلَاحِهِ، وَهِيَ الَّتِي بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى صِفَتَانِ لِمَنَاةَ، وَهُمَا يُفِيدَانِ التَّوْكِيدَ.

قِيلَ: وَلَمَّا كَانَتْ مَنَاةُ هِيَ أَعْظَمَ هَذِهِ الْأَوْثَانِ، أُكِّدَتْ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، كَمَا تَقُولُ: رَأَيْتُ فُلَانًا وَفُلَانًا، ثُمَّ تَذْكُرُ ثَالِثًا أَجَلَّ مِنْهُمَا فَتَقُولُ: وَفُلَانًا الْآخَرَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ. وَلَفْظُهُ آخَرُ وَأُخْرَى يُوصَفُ بِهِ الثَّالِثُ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ، وَذَلِكَ نَصٌّ فِي الْآيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ رَبِيعَةَ بْنِ مَكْرَمٍ:

وَلَقَدْ شَفَعْتُهُمَا بِآخَرَ ثَالِثِ انْتَهَى.

وَقَوْلُ رَبِيعَةَ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ، لِأَنَّ ثَالِثًا جَاءَ بَعْدَ آخَرَ. وَعَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ أَنَّ مَنَاةَ هِيَ أَعْظَمُ هَذِهِ الْأَوْثَانِ، يَكُونُ التَّأْكِيدُ لِأَجْلِ عِظَمِهَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ تَذْكُرُ ثَالِثًا أَجَلَّ مِنْهُمَا؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْأُخْرَى ذَمٌّ، وَهِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ الْوَضِيعَةُ الْمِقْدَارِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ «١» : أَيْ وُضَعَاؤُهُمْ لِرُؤَسَائِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَوَّلِيَّةُ وَالتَّقَدُّمُ عِنْدَهُمْ لِلَّاتِ وَالْعُزَّى. انْتَهَى. وَلَفْظُ آخَرُ وَمُؤَنَّثُهُ أُخْرَى لَمْ يُوضَعَا لِلذَّمِّ وَلَا لِلْمَدْحِ، إِنَّمَا يَدُلَّانِ عَلَى مَعْنَى غَيْرٍ، إِلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِهِمَا أَنْ يَكُونَا مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُمَا. لَوْ قُلْتَ:

مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَآخَرَ، لَمْ يَدُلَّ إِلَّا عَلَى مَعْنَى غَيْرٍ، لَا عَلَى ذَمٍّ وَلَا عَلَى مَدْحٍ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ:

وَالْأُخْرَى تَوْكِيدٌ، لِأَنَّ الثَّالِثَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا أُخْرَى. انْتَهَى. وَقِيلَ: الْأُخْرَى صِفَةٌ لِلْعُزَّى، لِأَنَّهَا ثَانِيَةُ اللَّاتِ وَالثَّانِيَةُ يُقَالُ لَهَا الْأُخْرَى، وَأُخِّرَتْ لِمُوَافَقَةِ رؤوس الْآيِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: وَالْعُزَّى الْأُخْرَى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الذَّلِيلَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُولَى كَانَتْ وَثَنًا عَلَى صُورَةِ آدَمِيٍّ، وَالْعُزَّى صُورَةُ نَبَاتٍ، وَمَنَاةَ صُورَةُ صَخْرَةٍ. فَالْآدَمِيُّ أَشْرَفُ مِنَ النَّبَاتِ، وَالنَّبَاتُ أَشْرَفُ مِنَ الْجَمَادِ. فَالْجَمَادُ مُتَأَخِّرٌ، وَمَنَاةُ جَمَادٌ، فَهِيَ فِي أُخْرَيَاتِ الْمَرَاتِبِ. وَالْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى قِسْمَتِهِمْ، وَتَقْدِيرِهِمْ: أَنَّ لَهُمُ الذُّكْرَانَ، ولله تعالى البنات.

وكانو يَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ وَالْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى.


(١) سورة الأعراف: ٧/ ٣٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>