للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَعَالَى، فَأَيُّ جِهَةٍ أَدَّيْتُمْ فِيهَا الْعِبَادَةَ، فَهِيَ لِلَّهِ يُثِيبُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَخْتَصُّ مَكَانُ التَّأْدِيَةِ بِالْمَسْجِدِ. وَالْمَعْنَى: وَلِلَّهِ بِلَادُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا. فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا، فيكون عَلَى حَذْفِ مَعْطُوفٍ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِمَا تَشْرِيفًا لَهُمَا، حَيْثُ أُضِيفَا لِلَّهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا لِلَّهِ، كَمَا شَرَّفَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَمَاكِنِ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أَسْمَى مَكَانٍ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُمَا اسْمَا مَصْدَرٍ، وَالْمَعْنَى أَنْ لِلَّهِ تَوَلِّيَ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ مِنْ مَشْرِقِهَا وَإِغْرَابِهَا مِنْ مَغْرِبِهَا، فَيَكُونَانِ، إِذْ ذَاكَ، بِمَعْنَى الشُّرُوقِ وَالْغُرُوبِ. وَيُبَعِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُ بَعْدُ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. وَأَفْرَدَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ بِاعْتِبَارِ النَّاحِيَةِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَصْدَرِ الْوَاقِعِ فِي النَّاحِيَةِ. وَأَمَّا الْجَمْعُ فَبِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمَغَارِبِ وَالْمَطَالِعِ كُلَّ يَوْمٍ. وَأَمَّا التَّثْنِيَةُ فَبِاعْتِبَارِ مَشْرِقَيِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَمُغْرِبَيْهِمَا. وَمَعْنَى التَّوْلِيَةِ: الِاسْتِقْبَالُ بِالْوُجُوهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهَا الِاسْتِدْبَارُ مِنْ قَوْلِكَ: وَلَّيْتُ عَنْ فُلَانٍ إِذَا اسْتَدْبَرْتَهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ:

فَأَيُّ جِهَةٍ وَلَّيْتُمْ عَنْهَا وَاسْتَقْبَلْتُمْ غَيْرَهَا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ فِي الصَّلَاةِ، بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِلَّذِينِ يُخَرِّبُونَ الْمَسَاجِدَ، أَيْ أَيْنَمَا تَوَلَّوْا هَارِبِينَ عَنِّي فَإِنِّي أَلْحَظُهُمْ. وَيُقَوِّيهِ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا، جَعَلَهُ لِلْغَائِبِ، فَجَرَى عَلَى قَوْلِهِ: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ، وَعَلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، فَجَرَتِ الضَّمَائِرُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَفِي أَيِّ مَكَانٍ فَعَلْتُمُ التَّوْلِيَةَ، يَعْنِي تَوْلِيَةَ وُجُوهِكُمْ شَطْرَ الْقِبْلَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «١» ، انْتَهَى. فَقَيَّدَ التَّوْلِيَةَ الَّتِي هي مطلقة هنا بِالتَّوْلِيَةِ الَّتِي هِيَ شَطْرَ الْقِبْلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ.

وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ مَسَائِلَ مَوْضُوعُهَا عِلْمُ الْفِقْهِ مِنْهَا: مَنْ صَلَّى فِي ظُلْمَةٍ مُجْتَهِدًا إِلَى جِهَةٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَمَسْأَلَةُ مَنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ فَرْضًا لِمَرَضٍ أَوْ نَفْلًا، وَمَسْأَلَةُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ، إِذَا قُلْنَا نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ، وَشَحَنَ كِتَابَهُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَذِكْرِ الْخِلَافِ فِيهَا، وَبَعْضِ دَلَائِلِهَا وَمَوْضُوعِهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ. فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ، فَيَكُونُ الْوَجْهُ بِمَعْنَى الْجِهَةِ، وَأُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ حَيْثُ أَمَرَ بِاسْتِقْبَالِهَا، فَهِيَ الْجِهَةُ الَّتِي فِيهَا رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، قاله


(١) سورة البقرة: ٢/ ١٤٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>