للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: الْوَجْهُ هُنَا صِلَةٌ، وَالْمَعْنَى فَثَمَّ اللَّهُ أَيْ عِلْمُهُ وَحُكْمُهُ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ومقاتل: أو عَبَّرَ عَنِ الذَّاتِ بِالْوَجْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ «١» ، كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «٢» ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى الْعَمَلُ لِلَّهِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، قَالَ:

أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لست محصيه ... رَبُّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ

وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَجْهِ هُنَا: الْجَاهُ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ وَجْهُ الْقَوْمِ، أَيْ مَوْضِعُ شَرَفِهِمْ، وَلِفُلَانٍ وَجْهٌ عِنْدَ النَّاسِ: أَيْ جَاهٌ وَشَرَفٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فَثَمَّ جَلَالُ اللَّهِ وَعَظَمَتُهُ، قَالَهُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي الْمُقْنِعِ. وَحَيْثُ جَاءَ الْوَجْهُ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَهُ مَحْمَلٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، إِذْ هُوَ لَفْظٌ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْعُضْوِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَشْهَرَ فِيهِ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ تِلْكَ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ لِلَّهِ بِالسَّمْعِ، زَائِدَةٌ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الْعُقُولُ مِنْ صِفَاتِ الْقَدِيمِ تَعَالَى. وَضَعَّفَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُ هَذَا الْقَوْلَ، لِأَنَّ فِيهِ الْجَزْمَ بِإِثْبَاتِ صِفَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِلَفْظٍ مُحْتَمَلٍ، وَهِيَ صِفَةٌ لَا يُدْرَى مَا هِيَ، وَلَا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، فَوَجَبَ اطِّرَاحُ هَذَا الْقَوْلِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا لَهُ مَحْمَلٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. إِذَا كَانَ لِلَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّجْسِيمِ فَنَحْمِلُهُ، إِمَّا عَلَى مَا يُسَوَّغُ فِيهِ مِنَ الْحَقِيقَةِ الَّتِي يَصِحُّ نِسْبَتُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا، أَوْ مِنَ الْمَجَازِ إِنْ كَانَ اللَّفْظُ غَيْرَ مُشْتَرَكٍ. وَالْمَجَازُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَكْثَرُ مِنْ رَمْلِ يَبْرِينَ وَنَهْرِ فِلَسْطِينَ.

فَالْوُقُوفُ مَعَ ظَاهِرِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى التَّجْسِيمِ غَبَاوَةٌ وَجَهْلٌ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَأَنْحَائِهَا وَمُتَصَرِّفَاتِهِا فِي كَلَامِهَا، وَحُجَجِ الْعُقُولِ الَّتِي مَرْجِعُ حَمْلِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ إِلَيْهَا. وَنَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نَكُونَ كَالْكَرَّامِيَّةِ، وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ فِي إِثْبَاتِ التَّجْسِيمِ وَنِسْبَةِ الْأَعْضَاءِ لِلَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْمُفْتَرُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وفي قوله: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ:

إِنَّهُ فِي حَيِّزٍ وَجِهَةٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا خُيِّرَ فِي اسْتِقْبَالِ جَمِيعِ الْجِهَاتِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي جِهَةٍ وَلَا حَيِّزٍ، وَلَوْ كَانَ فِي حَيِّزٍ لَكَانَ اسْتِقْبَالُهُ وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهِ أَحَقَّ مِنْ جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ. فَحَيْثُ لَمْ يُخَصِّصْ مَكَانًا، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا فِي جِهَةٍ وَلَا حَيِّزٍ، بَلْ جَمِيعُ الْجِهَاتِ فِي مُلْكِهِ وَتَحْتَ مُلْكِهِ، فَأَيُّ جِهَةٍ تَوَجَّهْنَا إِلَيْهِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ كُنَّا مُعَظِّمِينَ لَهُ مُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِهِ.

إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ: وَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِصِفَةِ الْوَاسِعِ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِسَعَةِ مَغْفِرَتِهِ.

وَجَاءَ: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ «٣» ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْكَلْبِيِّ: لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ. وقيل:


(١) سورة الرحمن: ٥٥/ ٢٧.
(٢) سورة القصص: ٢٨/ ٨٨.
(٣) سورة النجم: ٥٣/ ٣٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>