عَلَى نَحْوِ هَذَا فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «١» .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ، كِتابٌ مَرْقُومٌ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ، إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ، وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ. عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ، إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ، وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ، وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ. وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ، فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَمْرَ كِتَابِ الْفُجَّارِ، عَقَّبَهُ بِذِكْرِ كِتَابِ ضِدِّهِمْ لِيَتَبَيَّنَ الْفَرْقُ. عِلِّيُّونَ:
جَمْعٌ وَاحِدُهُ عَلِيٌّ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ، قَالَهُ يُونُسُ وَابْنُ جِنِّيٍّ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ:
وَسَبِيلُهُ أَنْ يُقَالَ عِلِّيَّةٌ، كَمَا قَالُوا لِلْغُرْفَةِ عِلِّيَّةٌ، فَلَمَّا حُذِفَتِ التَّاءُ عَوَّضُوا مِنْهَا الْجَمْعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَقِيلَ: هُوَ وَصْفٌ لِلْمَلَائِكَةِ، فَلِذَلِكَ جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ عَلَى صِفَةِ الْجَمْعِ، وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، كَقَوْلِهِ: عِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ وَالْعَرَبُ إِذَا جَمَعَتْ جَمْعًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِنَاءٌ مِنْ وَاحِدِهِ وَلَا تَثْنِيَةٌ، قَالُوا فِي الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أُعْرِبَ هَذَا الِاسْمُ كَإِعْرَابِ الْجَمْعِ، هَذِهِ قَنْسَرُونَ، وَرَأَيْتُ قَنْسَرِينَ.
وَعِلِّيُّونَ: الْمَلَائِكَةُ، أَوِ الْمَوَاضِعُ الْعَلِيَّةُ، أَوْ عَلَمٌ لِدِيوَانِ الْخَيْرِ الَّذِي دُوِّنَ فِيهِ كُلُّ مَا عَلِمَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَصُلَحَاءُ الثَّقَلَيْنِ، أَوْ عُلُوٌّ فِي عُلُوٍّ مُضَاعَفٍ، أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ لِلزَّمَخْشَرِيِّ.
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: كِتابَ الْأَبْرارِ: كِتَابَةَ أَعْمَالِهِمْ، لَفِي عِلِّيِّينَ. ثُمَّ وَصَفَ عِلِّيِّينَ بِأَنَّهُ كِتابٌ مَرْقُومٌ فِيهِ جَمِيعُ أَعْمَالِ الْأَبْرَارِ. وَإِذَا كَانَ مَكَانًا فَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ اخْتِلَافًا مُضْطَرِبًا رَغِبْنَا عَنْ ذِكْرِهِ. وَإِعْرَابُ لَفِي عِلِّيِّينَ، وكِتابٌ مَرْقُومٌ كَإِعْرَابِ لَفِي سِجِّينٍ، وكِتابٌ مَرْقُومٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وكِتابٌ مَرْقُومٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَبَرَ أَنَّ وَالظَّرْفُ مُلْغًى. انْتَهَى. هَذَا كَمَا قَالَ فِي لَفِي سِجِّينٍ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهَذَا مِثْلُهُ.
وَالْمُقَرَّبُونَ هُنَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ، يَنْظُرُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: إِلَى مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَاتِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَى أَهْلِ النَّارِ.
وَقِيلَ: يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَعْرِفُ بتاء الْخِطَابُ، لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، أو
(١) سورة البقرة: ٢/ ١١.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute