للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ظَاهِرِهِمَا، وَصَارَا ذَلِكَ مَجَازَيْنِ، شَبَّهَ بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ مَا يَبْدُو مِنَ الْفَجْرِ الْمُعْتَرِضِ فِي الْأُفُقِ، وَبِالْأَسْوَدِ مَا يَمْتَدُّ مَعَهُ مِنْ غَبَشِ اللَّيْلِ، شُبِّهَا بِخَيْطَيْنِ أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ إِلَى التَّشْبِيهِ قَوْلُهُ: مِنَ الْفَجْرِ، كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ أَسَدًا مِنْ زَيْدٍ، فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ زَيْدٍ كَانَ اسْتِعَارَةً، وَكَانَ التَّشْبِيهُ هُنَا أَبْلَغَ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا حَيْثُ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْحَالُ، أَوِ الْكَلَامُ، وَهُنَا لَوْ لَمْ يَأْتِ: مِنَ الْفَجْرِ، لَمْ يُعْلَمِ الِاسْتِعَارَةُ، وَلِذَلِكَ

فَهِمَ الصَّحَابَةُ الْحَقِيقَةَ مِنَ الْخَيْطَيْنِ قَبْلَ نُزُولِ: مِنَ الْفَجْرِ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ، وَهُوَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، غَفَلَ عَنْ هَذَا التَّشْبِيهِ وَعَنْ بَيَانِ قَوْلِهِ: مِنَ الْفَجْرِ، فَحَمَلَ الْخَيْطَيْنِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.

وَحَكَى ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ وَقَالَ: «إِنْ كَانَ وِسَادُكَ لَعَرِيضًا» وَرُوِيَ: «إنك لعريض القفاء» .

إِنَّمَا ذَاكَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ، وَالْقَفَا الْعَرِيضُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى قِلَّةِ فِطْنَةِ الرَّجُلِ، وَقَالَ:

عَرِيضُ الْقَفَا مِيزَانُهُ عَنْ شِمَالِهِ ... قَدِ انْحَصَّ مِنْ حَسْبِ الْقَرَارِيطِ شَارِبُهْ

وَكُلُّ مَا دَقَّ وَاسْتَطَالَ وَأَشْبَهَ الْخَيْطَ سَمَّتْهُ الْعَرَبُ خَيْطًا.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُمَا فَجْرَانِ: أَحَدُهُمَا يبدو سواد مُعْتَرِضًا، وَهُوَ الْخَيْطُ الْأَسْوَدُ وَالْآخَرُ يَطْلُعُ سَاطِعًا يَمْلَأُ الْأُفُقَ، فَعِنْدَهُ الْخَيْطَانِ: هُمَا الْفَجْرَانِ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِامْتِدَادِهِمَا تَشْبِيهًا بِالْخَيْطَيْنِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْفَجْرِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ الصُّبْحُ الصَّادِقُ، وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ، لَا الصُّبْحُ الْكَاذِبُ، وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُسْتَطِيلُ، لِأَنَّ الْفَجْرَ هُوَ انْفِجَارُ النُّورِ، وَهُوَ بِالثَّانِي لَا بِالْأَوَّلِ، وَشُبِّهَ بِالْخَيْطِ وَذَلِكَ بِأَوَّلِ حَالِهِ، لِأَنَّهُ يَبْدُو دَقِيقًا ثُمَّ يَرْتَفِعُ مُسْتَطِيرًا، فَبِطُلُوعِ أَوَّلِهِ فِي الْأُفُقِ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ. هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَبِهِ أَخَذَ النَّاسُ وَمَضَتْ عَلَيْهِ الْأَعْصَارُ وَالْأَمْصَارُ، وَهُوَ مُقْتَضَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ.

وَقِيلَ: يَجِبُ الْإِمْسَاكُ بِتَبَيُّنِ الْفَجْرِ فِي الطُّرُقِ، وَعَلَى رؤوس الْجِبَالِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ، وَحُذَيْفَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَطَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَطَاءٍ، وَالْأَعْمَشِ، وَغَيْرِهِمْ.

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ بِالنَّاسِ ثُمَّ قَالَ: الْآنَ تَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ

، وَمِمَّا قَادَهُمْ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الصَّوْمَ إِنَّمَا هُوَ فِي النَّهَارِ، وَالنَّهَارُ عِنْدَهُمْ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي النَّهَارِ، وَفِي تَعْيِينِهِ إِبَاحَةَ الْمُبَاشَرَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِتَبَيُّنِ الْفَجْرِ لِلصَّائِمِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي التَّبَيُّنِ وَفَعَلَ شَيْئًا

<<  <  ج: ص:  >  >>