مِنْ هَذِهِ، ثُمَّ انْكَشَفَ أَنَّهُ كَانَ الْفَجْرُ قَدْ طَلَعَ وَصَامَ، أَنَّهُ لَا قَضَاءَ لِأَنَّهُ غَيَّاهُ بِتَبَيُّنِ الْفَجْرِ لِلصَّائِمِ لَا بِالطُّلُوعِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَعَثَ رَجُلَيْنِ يَنْظُرَانِ لَهُ الْفَجْرَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: طَلَعَ الْفَجْرُ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَمْ يَطْلُعْ. فَقَالَ اخْتَلَفْتُمَا، فَأَكَلَ وَبَانَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.
قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَالْقَوْلَانِ عَنْ أَبِي حنيفة.
وفي هذه التغيية أَيْضًا دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْمُبَاشَرَةِ إِلَى التَّبَيُّنِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاغْتِسَالُ قَبْلَ الْفَجْرِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْمُبَاشَرَةُ مَأْذُونًا فِيهَا إِلَى الْفَجْرِ لَمْ يُمْكِنْهُ الِاغْتِسَالُ إِلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَذْهَبُ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْحَسَنُ يَرَى: أَنَّ الْجُنُبَ إِذَا أَصْبَحَ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ بَطَلَ صَوْمُهُ،
وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ وَهُوَ صَائِمٌ
، وَهَذِهِ التغيية إِنَّمَا هِيَ حَيْثُ يُمْكِنُ التَّبَيُّنُ مِنْ طَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ، فَلَوْ كَانَتْ مُقْمِرَةً أَوْ مُغَيِّمَةً، أَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُشَاهِدُ مَطْلَعَ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاحْتِيَاطِ فِي دُخُولِ الْفَجْرِ، إِذْ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْعِلْمِ بِحَالِ الطُّلُوعِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ إِلَى التَّيَقُّنِ بِدُخُولِ وَقْتِ الطُّلُوعِ اسْتِبْرَاءً لِدِينِهِ.
وَذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ أَنَّهُ لَا فِطْرَ إِلَّا بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ: الْمُبَاشَرَةِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ. وَأَمَّا مَا عَدَاهَا مِنَ الْقَيْءِ، وَالْحُقْنَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى الإباحة، فبقي عليها.
وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَالُوا: خُصَّتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ بِالذِّكْرِ لِمَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهَا، وَأَمَّا الْقَيْءُ، وَالْحُقْنَةُ، فَالنَّفْسُ تَكْرَهُهُمَا، وَالسَّعُوطُ نَادِرٌ، فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهَا.
وَمِنَ الْأُولَى، هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، قِيلَ: وَهِيَ مَعَ مَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: حَتَّى يُبَايِنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ الْخَيْطَ الْأَسْوَدَ، كَمَا يُقَالُ: بَانَتِ الْيَدُ مِنْ زَنْدِهَا، أَيْ فارقته، ومن، الثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ هُوَ بَعْضُ الْفَجْرِ وأوله، ويتعلق أيضا بيتبين، وَجَازَ تَعَلُّقُ الْحَرْفَيْنِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، وَقَدِ اتَّحَدَ اللَّفْظُ لاختلاف المعنى، فمن الْأُولَى هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، ومن الثَّانِيَةُ هِيَ لِلتَّبْعِيضِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ لِلْخَيْطَيْنِ مَعًا، عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ، لِأَنَّ الْفَجْرَ عِنْدَهُ فَجْرَانِ، فَيَكُونُ الْفَجْرُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ الْإِفْرَادُ، بَلْ يكون جنسا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute