"ثم قال: "أتبيعنيه"، فابتاعه منه" بأوقية، "وقال: "لك ظهره" أي: الركوب عليه "إلى المدينة"، فلمَّا وصلها أعطى الثمن وأرجح" فزاده شيئًا يسيرًا على الأوقية، كما في رواية بن إسحاق، "ووهب له الجمل، والحديث أصله في البخاي" في عشرين موضعًا، لكن لم يقع فيه أن ذلك في ذات الرقاع، ولذا لم يذكره في غزواتها، بل في بعضها أنه في تبوك، "ولا حجة فيه لجواز بيعه، وشرط" كما قال به أحمد والبخاري في طائفة لكثرة رواة الاشتراط، ومنعه أبو حنيفة والشافعي مطلقًا، وإن وقع بطلًا للنهي عن بيع وشرط وتوسط مالك، ففصل كما قرر في الفروع، وقالوا: لا حجة في خبر جابر، "لما وقع فيه من الاضطراب". قال في الروض: فقد روي: أفقرني ظهره إلى المدينة، وروي: شرط لي ظهره إليها. وقال البخاري: الاشتراط أكثر وأصح، واضطربوا في الثمن، فقيل: بأوقية وبأربع أواق وبخمس أواق وبخمسة دنانير وبأربعة دنانير، وهو في معنى أوقية, وبدينارين ودرهمين، وكل هذه الروايات ذكرها البخاري, "وقيل غير ذلك مما يطول ذكره". ومنه أنه لم يرد حقيقة البيع، بل أراد أن يعطيه الثمن بهذه الصورة، أو لم يكن الشرط في نفس العقد، بل كان سابقًا أو لاحقًا فلم يؤثِّر في العقد. ووقع عند النسائي: "أخذته بكذا، وأعرتك ظهره إلى المدينة" فزال الإشكال, لكن فيها اضطراب "والله أعلم" بالصواب في نفس الأمر. قال السهيلي -رحمه الله: ومن لطيف العلم في حديث جابر بعد أن يعلم قطعًا أنه -عليه السلام- لم يفعل شيئًا عبثًا، بل لحكمة مؤيدة بالعصمة اشتراؤه الجمل منه ثم أعطاه الثمن، وزاده ثم ردَّه عليه، وكان يمكن أن يعطيه ذلك بلا مساومة، ولا اشتراء, ولا شرط توصيل، فالحكمة فيه بديعة جدًّا, فلتنظر بعين الاعتبار، وذلك أنه سأله "هل تزوجت"؟ ثم قال: "هلَّا بكرًا"، فذكر مقتل أبيه وما خلف من البنات. وقد كان -عليه السلام- أخبر جابرًا، بأنَّ الله قد أحيا أباه، وردَّ عليه روحه، وقال: ما تشتهي فأزيدك؟ فأكد -صلى الله عليه وسلم- هذا الخبر بمثل شبهه، فاشترى منه الجمل وهو مطيته، كما اشترى الله من أبيه ومن الشهداء أنفسهم بثمن هو الجنة, ونفس الإنسان مطيته، كما قال عمر بن العزيز: إن نفسي مطيتي. ثم زادهم زيادة، فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ثم ردَّ عليهم أنفسهم التي اشترى منهم فقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: ١٦٩] الآية. فأشار -صلى الله عليه وسلم- باشتراء الجمل من جابر وإعطائه الثمن وزيادة، ثم رد الجمل المشترى عليه إشارة بذلك كله إلى تأكيد الخبر الذي أخبر به عن فعل الله بأبيه, فتشاكل الفعل مع الخبر كما تراه، وحاشا لأفعاله أن تخلو من حكمة، بل هي كلها ناظرة إلى القرآن ومنتزعة منه. انتهى. فما أحسن استنباطاته. هذا واقتصر المصنف من الآيات الواقعة في هذه الغزوة على قصتي غورث وجابر لتعلقهما بها، وتعلق قصة جابر من جهة سيره معه -عليه الصلاة والسلام.