وقال أبو حاتم في (العلل) لما ذكر رواية الأعمش عن مجاهد، قال: أخشى أنه لم يسمعه منه، لأنه قليل الرواية عنه. فلاحظ نظر إلى القلة والكثرة، لكن هنا القلة في رواياته كلها وإنما في روايته عن هذا المعين.
فإذن إذا كان الراوي يُدلس لا يُرد حديثه مطلقًا، وإنما يُرد إذا كثُر تدليسه بالنسبة إلى رواياته، فروى حديثًا محتملًا للسماع فإنه يُرد، وذكر يعقوب الفسوي أن رواية الأعمش وأبي إسحاق السبيعي والثوري صحيحة، وذلك -والله أعلم- لأن تدليسهم قليل بالنسبة إلى رواياتهم.
فإن قلت: كيف أميز من كان تدليسه قليلًا بالنسبة إلى روايته أو كثيرًا؟
يُقال: بأمور، فأحيانًا يُصرح العلماء أنفسهم، فإذا صرحوا رُدَّ كما صرح أحمد في ابن جريج، وكما صرح غيره في محمد بن إسحاق صاحب السير والمغازي، وعلى هذا فقس، فيصرحون أنه إذا أتى بصيغة غير صريحة في السماع لا تُقبل، وتارة يُعرف هذا بالنظر إلى صنيع صاحب الشيخين البخاري ومسلم، كثيرًا ما يروون إذا أكثروا الرواية عن راوي موصوف بالتدليس بلفظ غير صريح بالسماع وتبيَّن بالبحث أو بنص العلماء أنه لم يُصرح بالسماع في مواضع أخر، فيدل على أن تدليسه قليل بالنسبة إلى رواياته.
وقد سأل السبكي المزي عن المدلسين في الصحيحين وأنهم عنعنوا، هل سمعوا منهم في موضع آخر؟ قال المزي: لم يثبت سماعهم عنه في موضع آخر، لكن هذا يُقال إحسانًا بالصحيحين. نقله ابن حجر في (النكت).
فإذن إذا روى صاحبا الصحيح كالبخاري ومسلم حديثًا برواية مدلس بالعنعنة ولم يُعرف تصريحه بالسماع في موضع آخر، فهذه إشارة إلى أن تدليسه قليل بالنسبة إلى رواياته، وهكذا يُبحث في القرائن الأخرى، ومما اشتهر عند المتأخرين أنهم يردون رواية أبي إسحاق السبيعي إذا عنعن، والأعمش إذا عنعن، وهذا فيه نظر، الأصل أن تُقبل رواية أبي إسحاق السبيعي كما ذكر يعقوب الفسوي، وكما هو صنيع البخاري ومسلم في صحيحيهما، ومثله تقبل رواية الأعمش، إلا فيمن يُقل الرواية عنه كمجاهد، كما نص على هذا أبو حاتم في العلل، وعلى هذا فقس.
• تنبيه: قد يثبت عند أحد العلماء المحدثين أن فلانًا دلس، ومع ذلك يقبل حديثه، وذلك لقرائن خارجية كما تقدم أنهم يقبلون رواية المنقطع لقرائن خارجية، كحديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة: «ما جلس قوم في بيت من بيوت