بالعراء (١) لا يهتبل بِها»، وهذا يدل دلالة واضحة على ما يتطلع إليه باحث يريد أن لا يرتاح حتى يبلغ المدى.
ثُم انبعث الأدب في تارودانت انبعاث الذبالة من السراج قبل أن تنطفئ بِمُحمد العالِم العلوي الْمَاجد، فقد أتيح له أن يَجمع له ثلة من بقايا هذه النهضة المتقدمة، وقد كان الفقهاء الذين يردون عليه يقدمون إليه قصائد لا تعجبه, ولا يرفع بِها رأسا، حتى انثالت إليه هذه الثلة المتصادقة التي هي كعقد منظوم بالْمَاس، فرأى العجب عِيانا، وخاض ما شاء بلاغة وبيانا، إننا نعلم أن إبراهيم السجتاني، وابن الْحَسن الإيلالني، وابن عبد الله الزدوتي الذين كانوا من بين الثلة المعجب مُحمد العالِم بذلاقة ألسنها. قد تَخرجوا كلهم من فاس، ولعل قائلا يقول: إذن أدب هؤلاء لَم يكن مستقى من أدب تلك النهضة السوسية القائمة أخيرا بإيليغ، بل كان مستقى من وادي الجواهر، فنقول مجيبين: إننا أولا وبادئ ذي بدء، وقبل كل شيء لسنا مِمن يترامون إلى جعل المغرب عِضين، ولا مِمن يرمون في كل ما يكتبونه إلى أن يَجعلوا هذا الشعب الموحد من قديم طرائق قِددا، وإنّما نَحن الآن في تبيين الواقع في هذه الزاوية من المغرب، ونقول ما كان يقوله من يريد أن يقوم مثل هذا المقام في نواح أخرى مغربية؛ لتستنير أجزاء المغرب كلها، ويتضح تاريخ كل جهة. فإن ذلك أدعى للحكم على كل المغرب عند الذين سيتصدون لذلك أيضا في مقام آخر. أقول هذا وأكرره، وأعلنه غاية الإعلان، ثم بعد ذلك أقول: إن كون هؤلاء الثلاثة تَخرجوا من فاس لا يدل ذلك وحده على أن أدبهم فاسي مَحض، لا يضم من بذور النهضة السوسية شيئا، بل الذي يصح أن يَحكم به أنهم تذوقوا الأدب في بلادهم، ثم عمدوا إلى كليتهم وكلية كل المغاربة، لا كلية أهل عقبة باب الحمراء وحومة الطالعة وحدهم؛ ليترقوا منها وليدركوا من أساتذتِها في كل فن ما يعوزهم في باديتهم، وذلك ديدن كل من يأخذ من السوسيين من فاس، من قديم الزمان إلى اليوم، ويؤيد هذا أننا نعلم أن الذي تخرج من بلده شاديا ثُم توجه إلى مثل القرويين لا يشتغل في القرويين إلا بتتميم العلم الذي كان شدا به قبل، وحال هؤلاء الثلاثة وغيرهم من كل أدباء سوس إذ ذاك -على الأقل- لا يَخرج عن هذا، أوَليست هذه هي
(١) (نفحات الشباب) مخطوط مبتور، وقد أدخل في (المعسول) في ترجمة داود الرسموكي في (القسم الخامس).