[الخلاف في الأمور الاعتقادية والعملية الذي اتفق فيه على تبديع العين وتكفير النوع]
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، أما بعد: سبق وأن ذكرنا الفرق المتفق على تكفيرها نوعاً وعيناً، وأنها خارج الثنتين والسبعين فرقة، بل خارجة عن ملة الإسلام بالكلية.
أما النوع الثاني من البدع فهو: الأمور الاعتقادية والعلمية التي يبدع فيها المخالف باتفاق العلماء، ولكن يختلفون في تكفيره -أي: المعين- والبعض قد يطلق أن خلاف التكفير حتى في النوع، وهذه مسألة مما اشتبهت على كثير من المتأخرين، وظن خاطئ ظنه بعض المتأخرين من كلام الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد وغيره من العلماء حين تكلموا على تكفير من قال بخلق القرآن مثلاً، وتكفير من أنكر الاستواء أو نحو هذا ممن لا يصرح بنقيض القرآن؛ فمن صرح بنقيض القرآن فهو كافر باتفاق.
لكن هؤلاء اختلف فيهم العلماء المتأخرون، وذلك أن من العلماء من أطلق كفر من قال هذا، ولكن في نفس الوقت وجد أنه لا يعامل من قال بهذه الأقوال -حتى من دعا الناس إليها- معاملة الكافر، فالإمام أحمد يقول بتكفير من قال بخلق القرآن، وهو في نفس الوقت لما سألوه عن الخروج على الخليفة؟ قال: لا ننزع يداً من طاعة، وذكر الأحاديث في عدم الخروج على الإمام المسلم، وكان يقول عنه: أمير المؤمنين، وهذا يدل على عدم تكفيره، ومن هنا قال بعض العلماء: إن للإمام قولان: قول بالتكفير، وقول بعدم التكفير، أو أن أكثرهم قالوا: إن الراجح عدم التكفير، والصحيح أن قوله بالتكفير يحمل على كفر دون كفر، وهذا قول غير صحيح؛ فإن المتأمل في نصوص العلماء وكلامهم يدل على أنهم يقصدون الكفر الناقل عن الملة، وأقوالهم في كفر من قام بالبدع الغليظة كبدعة القدر ونفي الأسماء والصفات أو الجهمية والمعتزلة ونحو ذلك ظاهرة، وبين المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو أنه إنما قصد الإمام كفر النوع، وأما تكفير المعين فإنه امتنع منه لانتفاء بعض شروط التكفير، ولوجود مانع من موانع التكفير، مع أن الفعل والقول هو قول كفري.
وهذا أصح الأقوال في هذه المسألة.
لكن هل المسألة اختلفت فيها أنظار العلماء؟ نعم، فنجد مثلاً المنقول عن الشافعي رحمه الله وعن كل الشافعية: أن جميع أهل الأهواء لا يكفرون، وذلك أن الإمام الشافعي قبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية؛ لأنهم طائفة من الشيعة يستحلون الكذب، فدل ذلك على أنه لا يكفر الرافضة، وهذا ظاهر في تصرفات الأئمة عموماً، ولم يزل الرافضة موجودون في وسط أهل السنة ولم يطلب ولم يسع العلماء إلى إقامة حد الردة عليه مع أن في كلامهم من الكفر ما هو معلوم.
إذاً: الراجح في هذا النوع الثاني أنه مما يبدع فيه باتفاق أهل السنة.
أما أنه كافر أو غير كافر فهذا فيه اختلاف، والراجح أنه لا يكفر المعين، ويقال بكفر النوع، فأصح الأقوال وسط ما بين قولين: القول الأول: وهو يقول بكفر هؤلاء، خصوصاً الرافضة والجهمية؛ فإن من العلماء من أخرجهم من الثنتين والسبعين فرقة، وقال بكفر النوع كالخوارج، وطائفة من أهل الحديث كفرت الخوارج بالذات.
القول الثاني يقول بعدم التكفير، وأن هذا كفر دون كفر، إذاً: هو يكفر النوع والعين.
والراجح في الباب: أنه كافر نوعاً لا عيناً، وأن من قال كذا فهو كافر، وأما فلان من الناس فلا بد من استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، وهي: أولاً: البلوغ، فلو كان صغيراً، كان الصغر مانعاً من موانع التكفير.
ثانياً: العقل والتكليف: فلو كان مجنوناً فهذا مانع من موانع التكفير ولو كان عاقلاً فهذا شرط من شروطه.
ثالثاً: الاستيقاظ: فلو تكلم بالكفر وهو نائم فذلك مرفوع عنه القلم حتى يستيقظ.
رابعاً: القصد الذي ضده الخطأ، فلو أنه قال كفراً خطأ بالتلفظ، كمن قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، فهذا مانع من موانع التكفير، والقصد من شروط التكفير، والخطأ من موانعه.
خامساً: النسيان من موانع التكفير والتذكر من شروطه: كمن أسقط آية ناسياً.
سادساً: بلوغ الحجة التي يكفر المخالف لها شرط من شروط التكفير.
سابعاً: وجود الجهل الناشئ عن عدم البلاغ مانع من موانع التكفير.
ثامناً: الإكراه وعدم الاختيار، وعدم التأويل من شروط التكفير.
هذا بالنسبة للمعين.
فهذه الثمانية التي تعرض لأهلية الإنسان فتجعله لا يحاسب على تصرفاته كما يحاسب من اكتملت أهليته في الدنيا.
إذاً: الراجح في هذا الباب هو القول الوسط ما بين القولين، وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه كافر نوعاً وليس عيناً.
ونعني بقولنا: ليس عيناً: أنه يمكن أن يكفر الشخص إذا أقيمت عليه الحجة وثبتت، ونفيت شبهة التأويل التي عنده، وأزيلت الشبهة بحق.
وقد عرفهم بقوله: هم المقرون بأصول الإيمان إجمالاً.
وقد ذكرنا النوع الأول المتفق عليه نوعاً وعيناً: أنهم ينكرون أحد أصول الإيمان إجمالاً، كمن يقول: إن ربنا إنسان بعينه، أو يخالف في النبوة، أو يقول: لا قدر، بخلاف من قال: أنا أؤمن بالقدر، ولكنه يفسره على نفي القدر مثل المعتزلة، فهؤلاء يقرون في الجملة بأصول الإيمان الستة، فيقولون: هناك إيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وهم مخالفون لفهم أهل السنة في أصل كلي من أصول الاعتقاد كالأسماء والصفات، وهي مخالفة في أصل الدين، ونذكر على سبيل المثال: لو خالف شخص في مسألة من ضمن مسائل الإيمان باليوم الآخر، فأنكر المسيح الدجال، فقد ارتكب بدعة، لكن لم يصبح فرقة من الفرق النارية؛ لأنها جزئية يسيرة، لكن عندما يخالف في أصل كلي فهذا لا شك أنه من الفرق النارية.
فضابط الحكم عليه: أنه يخالف أصلاً كلياً، أو في فروع كثيرة جداً تجتمع وتصل إلى مرتبة الأصل الكلي، والأصول هذه مبناها على الأسماء والصفات، والقدر، والإيمان بالوعد والوعيد -أي: الإيمان والكفر- والاعتقاد في الصحابة.
هذه أربع مسائل كبرى حصل فيها الافتراق: قضايا الأسماء والصفات، وقضايا القضاء والقدر، وقضايا الإيمان بالوعد والوعيد الذي هو مسمى الإيمان وحقيقته، هل هو: قول وعمل، أو قول فقط، أو اعتقاد فقط أو كل عمل من الأعمال ركن من أركان الإيمان يزول بزواله إذا تركه، وهذا قول المعتزلة والخوارج.
والاعتقاد في الصحابة والإمامة وأهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، ومن الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.