[أمثلة الخلاف غير السائغ في المسائل العملية]
من هذا النوع من الخلاف القولي: جواز ربا الفضل، وأن المحرم هو ربا النسيئة فقط، هذا يروى عن ابن عباس ويروى رجوعه عنه، وقد استفاضت الأحاديث بتحريمه، وهو ذهب بذهب مع التفاضل، أو قبض بقبض مع التفاضل.
ومنه: القول بجواز شرب النبيذ المسكر الكثير من غير عصير العنب، وهو قول أهل العراق، وهو خلاف نص الحديث الصحيح: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام).
ومنه: القول بجواز نكاح المتعة، وهو قول ابن عباس، ويروى أيضاً رجوعه عنه.
يلاحظ: أننا قلنا بأنه خلاف غير سائغ، ونقول بأن هذا قول ابن عباس، وثابت عنه، لكن لأن السنة مستفيضة في النهي واتفق على خطأ ابن عباس رضي الله عنه الله عنه في ذلك، ويروى عنه رجوعه، وممكن أن يكون هذا أيضاً منقول عن بعض الصحابة، لكن اشتهر جداً الدليل المخالف له، فيهجر بالاتفاق.
وقد ثبت النهي عن نكاح المتعة في الصحيحين، ونسخ جوازه عام الفتح، وأجمع عليه أهل السنة، ولم يخالف فيه إلا الشيعة الروافض.
ومنه: القول بصحة النكاح دون ولي.
الحقيقة أن هذه المسألة عند أكثر العلماء ضمن الخلاف السائغ، فعند الشافعية والحنابلة أن النكاح بدون ولي عندهم من الخلاف السائغ، وأنا لصحة النص بوضوح شديد أرجح قول بعض الشافعية والحنابلة مع أنهم قلة جداً، وهو في المذهب يعد شذوذاً، لكن من جهة الدليل أنا صراحة أقول: إن هذا القول غير سائغ، وأعتبر أن المخالف فيه مخالف خلافاً غير سائغ، وينبني على هذا: أن من يقول: هذا خلاف سائغ.
يقول: حتى ولو كان عالماً بأن نكاحه باطل لا يقام عليه الحد، ومن يقول: إن الخلاف غير سائغ يقول: إذا كان متأولاً فلن نقيم عليه حد الزنا، وإذا كان غير متأول ووصلته الأدلة، وعالم بأن نكاحه باطل يقام عليه حد الزنا، والقول بصحة النكاح بدون ولي هو قول الحنفية، وهو مصادم لنص الحديث الصحيح: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل.
قال ذلك ثلاث).
ونص ابن قدامة في المغني على أنه: لو حكم حاكم بصحة النكاح بدون ولي يثبت حكمه ولا ينقض ذلك النكاح، لكن الصحيح: أنه ينقض حكمه؛ لأن هذا مخالف للنص، ولا يوجد احتمال لتفسير (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها)، ثم هم أيضاً لا يقولون ذلك في البكر، بل في المرأة الرشيدة، فهو مذهب مصادم لنص، والمحتمل أن يكون هذا من الخلاف السائغ في الثيب، فيقول: هذا عام وقابل للتخصيص لكنه يقول: أي امرأة رشيدة بلغت تزوج نفسها.
هذا القول مصادم للنص مائة في المائة.
ومنه: القول بجواز المعازف وسماعها، وهو قول ابن حزم، وهو مصادم لنص الحديث الصحيح: (ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف).
أقول أيضاً: إن بعض الفقهاء قالوا بأن هذا من الخلاف السائغ.
وهذا مشهور جداً عند أناس مثل الدكتور يوسف القرضاوي وغيره، لكن الحقيقة أن هذا القول خلاف غير سائغ، والإمام أحمد والغزالي وغيرهما يجوزون للمحتسب كسر آلات المعازف، وهذا دليل على أنه ليس بخلاف سائغ أبداً عندهم؛ لأن المحتسب عندهم ليس له أن يحمل الناس على مذهبه في مسائل الخلاف.
ومنه: القول بجواز تصوير ذوات الأرواح إذا لم يكن للصورة ظل -يعني: غير مجسمة- أي: جواز رسم اليد، وهو قول بعض السلف، وابن حجر يراه من الخلاف السائغ، ويعترض على النووي في قوله: وهذا مذهب باطل؛ لأن القرام الذي سترت به عائشة السهوة كان بلا شك بلا ظل، فـ ابن حجر يعترض على النووي ويقول في الشرح: وأما قوله: مذهب باطل.
فهذا فيه نظر؛ فإن حديث: (إلا رقماً في ثوب) قد يدل على الجواز، يعني: ابن حجر يرجح عدم جواز تصوير ذوات الأرواح، لكنه يرى وجود خلاف سائغ، وعليه فلا ينبغي أن يقال عنه: باطل؛ لأن الشافعية عندهم تدقيق قوي في هذه المسائل، فعندما يقول: هو الراجح أو هو الصحيح غير كلمة الأصح، فالأخيرة تدل على قرب الكلمتين في الصحة، ولا يقولون في خلاف الأصح: إنه ضعيف أو مرجوح.
وعندما يقولون: الصحيح.
فهو ضد الخطأ أو الضعيف في القول، لكن عنده هذا خلاف سائغ، وعندما يقول: هذا صواب، فهو ضد الباطل، فهم مدققون جداً في هذا، فقولهم: هذا باطل أي: غير سائغ، وقول النووي: الصحيح بل الصواب إضراب عن كلمة الصحيح، أي: أن الخلاف هنا غير سائغ ويظهر الفرق فيما لو دخل شخص إلى بيت آخر ورأى الصور فنزعها فقد أتى بعمل مشروع.
والصواب: أنه خلاف غير سائغ، والراجح هو قول الإمام النووي، وحديث عائشة نص في ذلك؛ لأنه لا يحتمل التخصيص بما ليس له ضد، بخلاف حديث زيد بن خالد فإنه يحتمل التخصيص بغير ذوات الأرواح: (إلا رقماً في ثوب)، فهو عام يشمل كل ما في الثياب، ويمكن أن يخصص بالجواز بما ليس فيه روح، وعمومه يفيد الحرمة في غير ذوات الأرواح، أما حديث عائشة (يا عائشة! إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)، فلا نخصصه بالمجسم وغير المجسم بدليل حديث زيد بن خالد -هذا كلام ابن حجر - لأن حديث عائشة: (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) ورد على المرسوم باليد، وهو ما ليس فيه ظل، أو ليس بمجسم وهذا يجعله قطعي الدخول فيه، وبالتالي فهو لا يتخرج منه؛ لأن ورود العام على سبب يجعل ذلك السبب قطعي الدخول فيه، ولا يمكن تخصيص هذا الجزء منه، وبالتالي أصبح عندنا نص في موطن النزاع، وبالتالي المخالف للنص لا يحتمل أن يكون خلافاً سائغاً.
وهذا مثل حديث النمرقة، وهي قطعاً غير مجسمة.
ومنه: القول بتحريم الذهب المحلق على النساء، وهو قول الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله، فمن يقول بأن الذهب المحلق بأي حلقة حرام على النساء مخالف للإجماع، وأنا أعتقد وأجزم أن الأمة الإسلامية ما عرفت هذا القول طيلة أربعة عشر قرناً، حتى أتى صديق حسن خان بهذا الكلام، ثم أخذه عنه الشيخ الألباني، وهذه لا تصلح أن تكون علة إلا للتفرقة بين الأشياء، وهذا عدم التفات إلى مقاصد الشرع في التحريم، فحديث: (من أراد أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلق حلقة من ذهب)، يمكن أن يعلق عليه أكثر من وصف، فقوله: (من أراد أن يحلق حبيبه) لعله يراد به الرحل، فالحديث يحمل عليه وهل هو حرام على الذي يحبه وحلال لمن لا يحبه؟ وهذا لا يصح؛ لأن الشرع لا يلتفت إلى مثل هذه التفريقات، وأن من تحبه له حكم، ومن تكرهه له حكم آخر، و (من أراد) لفظ مذكر، والصواب أن الشرع لا يلتفت إلى مثل التفرقة بين أراد وأرادت.
ومثل هذا أخذ مفهوم المخالفة من كلمة حلقة، فيفهم من كلمة (حلقة من ذهب) أن ما ليس بحلقة جائز، والحلقة هي المحرمة، وهذا التفات إلى ما لا يلتفت إليه الشرع نهائياً.
ومثله من يأتي إلى حديث الأعرابي ويقول: تحريم بول الأعراب في المسجد، وهذا فهم باطل باتفاق؛ لأن الأعراب مثل الهنود ومثل الحبشة وبول كل الناس داخل في هذا فهذا التفات إلى ما لا يلتفت إليه الشرع، وتعليل الحكم بوصف فردي غير مقصود شرعاً ولم يعهد التفات الشرع إليه، فبالتالي كان هذا استحداث قول بدعة بالتأكيد، مع أن المسألة عملية، لكن لا يوجد أحد قال بالتفرقة بين المحلق وغيره عبر القرون، والنقل المتفق عليه هو انتهاء الخلاف في أن الذهب حرام على النساء كله، وهذا هو المنقول عن أبي هريرة بإسناد صحيح، لكن ليس التحريم صراحة، إنما أبو هريرة يبرر فعله في عدم تحليته بالذهب: أخاف عليها من النار، هو حمله على المحلق أيضاً، وهذا كلام غلط قطعاً؛ لأن العلة المرعية شرعاً: أنها عندما تظهر الزينة سيخاف عليها من النار، أو لا تؤدي زكاته، فلا يحليها بالذهب حتى لا يبلغ النصاب وهي لا تدري فتعذب لعدم إخراج زكاته، وأصح الأقوال حملها على هذا الأصل، وهو أن الذهب محرم على النساء إذا لم تكن تؤدي زكاته؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيسركما أن يسوركما الله بسوارين من نار؟ قالتا: لا، قال: أديا زكاته)، فهو لم يأمرهما بنزعه، ولكن أمر بأداء زكاته، ولم يتعرض لكونهما حلقة أم لا، فهذا نص في إباحة الذهب المحلق فضلاً عن الإجماع الصحيح الذي يطعن الشيخ فيه.
فعندما ينقل الإجماع أحد الأئمة المعروفين بمعرفة أقوال العلماء عبر العصور مثل المروزي أو إسحاق أو ابن المنذر فكلهم مشهور بمعرفة أقوال المتقدمين من الصحابة إلى زمانهم، أو حتى من المتأخرين مثل أبي عمر بن عبد البر، أو شيخ الإسلام ابن تيمية، ويؤكدون اتفاق أكثر من عالم على النقل ويقولون: هذا إجماع إجماع إجماع، فلا يصح أن ينفي أحد هذا.
مثلاً: نجاسة الدم، نقل الإجماع فيه ابن حزم والنووي، وابن القيم، وابن رشد إلا الحيوان البحري، فهؤلاء كلهم ينقلون الإجماع على ذلك، فعلى من ينكر ذلك أن يأتي بالمخالف الذي قال بطهارة الدم.
ففي مسألة الذهب الأغلب أنه يكون محلقاً، والذهب المقطع قليل جداً، فلما ينقل الاتفاق على جوازه، وجواز خاتم الذهب للنساء ونحو ذلك، تقول: من ادعى الإجماع فقد كذب، إذاً: لا بد أن تأتي بمن نقض الإجماع، ولولا أن هذا غير معلوم من الدين بالضرورة لوضعنا المسألة في باب أغلظ من ذلك، لكن هذا غير معلوم من الدين بالضرورة في هذا المقام.
فالشيخ لم يأت بقائل يقول بحرمة الذهب المحلق، إنما أتى بأقوال متقدمين قالوا: الذهب محرم على النساء؛ لأنها لا تؤدي زكاته بعد بلوغه النصاب أو لأنها تظهره للرجال، فهو لم ينقل تصريح أحد من المتقدمين على التفريق بين المحلق وغير المحلق، ولكن أوهم القارئ أن هـ