[التعصب للأسماء والجماعات والمذاهب من أسباب الخلاف المذموم]
ذكرنا من أسباب وقوع الخلاف المذموم في الأمة البغي والتنافس على الدنيا ورياستها، والجهل، ونقص العلم، وظهور البدع، واختلاف المناهج، وظهور الدعاة على أبواب جهنم بالضلال.
ومن أسباب الخلاف التعصب المذموم للأسماء والأشخاص والجماعات ووضع الولاء تبعاً لها.
وهذا السبب من أخطر الأسباب وأكثرها تدميراً للعالم الإسلامي، بل هو الذي جعل الكثيرين -ممن نحسب منه الصدق والإخلاص والرغبة في نصرة الإسلام- يقولون بعدم مشروعية العمل الجماعي جملةً، واعتبار الجماعات الإسلامية العاملة على الساحة أحزاباً باطلة يجب التحذير منها، وعدم الانتساب لها، والعمل من خلالها، وهذه مسألة حساسة جداً وشائكة، بل ربما يفهم -خطأ أو صواباً- من كلام بعض المشايخ: أن العمل الجماعي بدعة، وأن الانتساب للجماعات الإسلامية العاملة على الساحة حزبية ممقوتة وتعصب مذموم، مع أن هذا تشخيص غير صحيح، ويحتاج إلى علاج، وهو أشد منه خطأ وخطراً في الحقيقة.
أقول: لقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من دعوى الجاهلية، وهذا أمر لا نزاع فيه ولا شك، ولما تنادى المهاجرون: يا للمهاجرين! وتنادى الأنصار! يا للأنصار، قال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم دعوها فإنها منتنة) رواه مسلم وغيره، هذا مع أن اسم المهاجرين والأنصار من أشرف الأسماء، وهي من الأسماء التي سماهم الله بها في كتابه، وسماهم بها الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته.
وبناءً على ذلك فقد توجد العصبية المذمومة ودعوى الجاهلية مع وجود الأسماء الشريفة المعتبرة ومع أن التسمية ليست بدعة وليست مذمومة ويمكن أن توجد معها العصبية الجاهلية فبمجرد التسمية هي العصبية؛ لأن الأسماء كانت موجودة قبل ذلك وظلت موجودة بعد ذلك.
فالتسمي نفسه ليس عصبية جاهلية بحد ذاته.
نقول: ومع ذلك حين صارت الأسماء الشريفة شعاراً ينتصر الناس له دون تبين للمحق من المبطل صارت جاهلية، فحين نادى الغلام المهاجري يا للمهاجرين، فهب المهاجرون يشاجرون لا لشيء إلا لأنه منهم وكذا الأنصار حين ناداهم الأنصاري فقال: يا للأنصار فهبوا لا لشيء إلا لأنه منهم.
فصار هذا انتصاراً لمجرد الاسم وهو الجاهلية ولو كان الاسم اسماً شريفاً كاسم السنة مثلاً، فلو أن سُنياً نازع صوفياً فنادى السني في أصحابه فلا ينبغي الانتصار له دون تبين، بل لا بد أن نتبين من المحق ومن المبطل، وما يدرينا فقد يكون المنتسب للسنة ظالماً للصوفي، حتى لو كان هذا الصوفي مبتدعاً في جزئية لكن لابد أن ينتصف لصاحب الحق.
ومن المؤسف أن كثيراً من المسلمين اليوم يتعصبون للأسماء فما إن ينتمي أحدهم لجماعة حتى يتعصب لها وقد يتعصب البعض لعالم معين أو لبلد معين، ينصر على ذلك، ويغضب عليه ويتغاضى عن المخالفات التي تصدر من جماعته أو طائفته، وبالمقابل يُعظِّم ما يصدر عن غيرهم، ويعمل على المصلحة المحدودة لطائفته دون النظر إلى مصالح باقي المسلمين، فالمصلحة بالنسبة له هي مصلحة الطائفة التي ينتمي إليها، فهذا يعتبر مذموماً إذ أن نظرته وموازينه غير صحيحة.
فلو أن واحداً -على سبيل المثال- من جماعة أخرى وقع في منكر ما تجد الآخر يطير بالخبر قائلاً: الجماعة الفلانية يفعلون كذا وكذا، وقد يكون هذا الأمر يرتكبه أحد أفراد جماعته التي ينتمي إليها، فيصير الأمر بالنسبة لجماعته خطأ فردياً مع أن الباقين قد يكونون على نفس الأمر طالما لم يؤسس هذا الأمر عندهم ولم يقبل، فهم راضون به ويرونه حينها فعلاً قد ينسب إلى الجميع، وهذا ممكن الحصول لجماعة معينة وقد يكون لعالم معين، فلو أن أناساً لا يوجد لهم اسم معين بل هم تلامذة شيخ من المشايخ وتلامذة الشيخ معلوم أنهم أتباع الشيخ، وربما يقولون: العمل الجماعي بدعة والحزبية مذمومة، بينماالحزبية عندهم قائمة بالفعل، من جهة أن قول الشيخ: كذا، يصير هو الحق وما سواه هو الباطل، وكل من خالف الشيخ فهو عدو لنا، ويغضب إذا خالف الشيخ أي أحد حتى ولو كان الخلاف مما يجوز ومما يسوغ فضلاً عن أن ينتصر له بيده ولسانه.
وقد يكون التعصب لبلد معين أشد أنواع العصبية ظهوراً إذ يؤدي إلى التقاتل بين الطوائف المسلمة، فقد تجد جماعات أو دولاً وطوائف تميز بين الناس على أساس الجنسية، فمثلاً أهل البلد مصنفون على أنهم طبقة أولى، والكفرة من اليهود والأمريكان والنصارى هم أعلى قليلاً من أهل البلد، ويليهم طائفة قريبة منهم كدول الخليج مثلاً ومن ثم بقية الدول، وليس هناك تصنيف على أساس أن المسلمين مقدمون على غيرهم، لا، بل هذا هو الترتيب عندهم، فربما يكون هناك نوع من الانتصار لابن البلد على الأجنبي مع أنه مسلم مثله، وقد يكون صاحب الحق والجميع يعلم أنه صاحب الحق، ومع ذلك يعجز عن الانتصار لنفسه، ويعجز أن يجد الإنصاف من غيره، فهذه العصبية مذمومة جداً ومع ذلك تجد البعض يقرها ويصوب مثل هذه المبادئ حتى تصير قوانين مسنونة، فسمح مثلاً لبعض الناس بالحج ويمنع الآخرون من الحج، ويسمح للبعض بالتوافد والإقامة والبعض يمنع من ذلك بناء على حقوق تعطى وتمنع ومبناها في الأصل على الجاهلية، والبعض قد يرى ذلك حقاً لولي الأمر مثلاً، مع أن ولي الأمر ليس من حقه أن يؤصل العصبية الجاهلية ويميز بين الناس، وإذا كان ولي أمر المسلمين جميعاً فلا بد أن يكون كل المسلمين عنده سواء، أما إذا كان ولي أمر لطائفة معينة فليس له دخل في الباقين، فلو كان لا يرى ولايته عليهم فليس عليهم أن يسمعوا ويطيعوا؛ لأنه لا يراعي مصالحهم، والأصل أن بلاد الله عز وجل هي بلاد المسلمين عموماً.
فهذا أمر موجود، بل قد يكون التعصب في البلد نفسها، فتجد مثلاً الفلاحين يتعصبون لبعضهم، وأهل الصعيد يتعصبون لبعضهم وكذا سكان الإسكندرية، وفي بلد آخر كثيراً ما تسمع هذا نجدي وهذا حجازي ونحو ذلك، وهذا شريف وهذا غير شريف، وهكذا داخل البلد الواحد قد يفهم البعض أن الاتجاهات الإسلامية هي التي تؤاخذ أو أنه لا تعصب في الدنيا إلا هذا، وجميع أنواع التعصب الأخرى لا تحارب.
فنقول: لا، بل يجب أن تحارب كل أنواع التعصب سواء كانت لمشائخ أو لجماعات إذ التعصب يكون مذموماً سواء وجدت الأسماء أو لم توجد، فهذا شأن لابد من محاربة جميع أموره، ويزداد الأمر سوءاً إذا رأى الشخص أن جماعته هي وحدها جماعة المسلمين التي من فارقها فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وهذا ما تعلنه جماعة التكفير صراحة، وهو أن شرط الحكم بالإسلام هو الانتماء للجماعة التي ينتمون إليها؛ لأن جماعتهم كانت أول من صرح به تصريحاً، وكذلك تطبيقات جماعات الإخوان رغم تصريحات القادة والمفكرين البارزين فيها بأنهم جماعة من المسلمين إلا أن الاستهانة الشديدة بمن خرج عن الجماعة يجعل المعاملة في هذا الباب قريبة ممن يرى أن جماعته هي جماعة المسلمين، وإن كانوا لا يصرحون بذلك، ولكن أسلوب التعامل من التشديد والتعنيف على المخالف خصوصاً في مراحل سابقة يظهر ذلك جلياً، ولا شك أن هذه الأمراض تؤثر على القلب وإخلاصه ونصيحته لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وتفتح باب الصراعات الداخلية بين أبناء الصحوة الإسلامية لأعداء الإسلام لينفذوا منه لضرب الجميع.