[التوسل الممنوع ومراتبه]
من هذا النوع التوسل البدعي بطلب الدعاء من الأموات والغائبين.
نحن قلنا بأن دعاء غير الله، وطلب المدد من النوع الوسط، وهو كفر النوع، والمعين يحتاج إلى إقامة الحجة عليه.
فمن يقول للشيخ: يا شيخ فلان! ادع الله لي، فهذا بدعة بالاتفاق، لكن من جهة أنه كفر فهو ليس بكفر؛ لأنه لم يصرف العبادة لغير الله، ونحن نقول: الشرك والكفر لا بد أن يكون فيه صرف للعبادة لغير الله، أو تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم، من أجل هذا نقول: إن التوسل البدعي بطلب الدعاء من الأموات والغائبين كقوله: يا سيدي فلان! ادع الله لي.
هذا شرك أصغر؛ لأنه ذريعة إلى الشرك الأكبر، ولا يكفر صاحبه باتفاق؛ لأنه لم يصرف العبادة لغير الله، وإنما خاطب الميت بما لا يشرع، فقد ذكر شيخ الإسلام في قاعدة جليلة: أن مراتب التوسل غير المشروع ثلاثة: الأولى: أن يدعو غير الله وهو ميت أو غائب، سواء كان من الأنبياء والصالحين أو غيرهم، فيقول: يا سيدي فلان! أغثني أو أنا أستجير بك، أو أستغيث بك، أو انصرني على عدوي، وأعظم من ذلك أن يقول: اغفر لي وتب علي، كما يفعله طائفة من الجهال المشركين، فهذا شرك بهم، وإن كان يقع كثير من الناس في بعضه، وهذا إذا كان جاهلاً لا يكفر حتى تقام عليه الحجة.
الثانية: أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي، أو ادع لنا ربك، أو اسأل الله لنا، كما تقول النصارى لمريم وغيرها، فهذا لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة.
وقال: فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئاً، لا يطلب منه أن يدعو الله ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يشتكى إليه شيء من مصائب الدنيا والدين، ولو جاز أن يشتكى إليه ذلك في حياته فإن ذلك في حياته لا يفضي إلى الشرك، وهذا يفضي إلى الشرك.
وواضح جداً في أن هذا من الذارئع وليس من الشرك.
الثالثة: أن يقول: أسألك بفلان أو بجاه فلان عندك ونحو ذلك، فهذا الذي تقدم عن أبي حنيفة وعن أبي يوسف وغيرهما أنه منهي عنه، وتقدم أيضاً أن هذا ليس بمشهور عن الصحابة، بل عدلوا عنه إلى التوسل بدعاء العباس وغيره.
وهذا النوع الأخير فيه خلاف، والراجح فيه أنه بدعة، ولكن هذه من مسائل النوع الثاني من أنواع الاختلاف، وهو الذي يعد من الخلاف السائغ، مع ترجيحنا لبدعيته.
ونقلنا قبل هذا كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذا الباب، وأن هذا الخلاف منقول عن الإمام أحمد في المناسك، رواه المروزي عنه، وكذلك العز بن عبد السلام والشوكاني ومحمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقول: إننا نرى أن هذا بدعة، لكننا لا نبدع ولا ننكر على فاعله بالتغليظ، كما في الجزء الرابع صفحة ستة وثمانين من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فهو يصرح بأن هذه مسألة خلافية.
مثال ذلك إذا سمعنا أحدهم يقول: اللهم ارحمني بحق جاه النبي، فهذا عندنا بدعة، لكننا لا نغلظ فيها الإنكار؛ لأنها من الخلاف السائغ؛ ولأنها مسألة فيها اجتهاد، ونقلت خطأً عن عثمان بن حنيف، والنقل فيها ضعيف السند، ورواية الدارقطني التي فيها زيادة عن عثمان بن حنيف: أنه قال لرجل عنده حاجة عند عثمان بن عفان: (ائت ميضأة ثم توضأ وصل ركعتين، وقل: يا محمد نبي الرحمة إني أتوجه بك إلى ربك)، وهذا الحديث الراجح أنه ضعيف؛ لأن هذه الزيادة شاذة بل منكرة، لكن هناك من صحح هذه الزيادة، فبضعهم قالوا: إنه ثبت عن الصحابة هذا النوع من التوسل، ونحن نرجح عدم ثبوته عنهم؛ لأنه توسل بدعي، ولكن هذه المسألة هي خلاف في الفروع.
نقول: ما يبدع فيه المخالف مع الاتفاق على عدم تكفيره هو النوع الثالث، ونحن لدينا نوع توسل واحد مما يكفر فيه المخالف تكفير نوع لا عين حتى تقام عليه الحجة، وهو من يقول: ارحمني، أغثني، المدد يا سيدي فلان.
ونوع متفق على بدعيته ولكن لا يكفر صاحبه وهو قوله: ادع الله لي يا سيدي فلان ادع لنا ربك اسأل لنا ربك.
وهذا شرك أصغر وهو ذريعة إلى الشرك الأكبر.
ونوع مختلف فيه والراجح منعه، وهو من ضمن الخلاف السائغ، ولا نقول عن فاعله: رجل مبتدع، بل نقول: أخطأ في هذه المسألة.
فالنوع الأول هو من يقول: يا سيدي فلان أغثني، فهذا شرك أكبر، لكن يحتاج إلى إقامة الحجة؛ لأن هؤلاء الناس جهلة، ولم تبلغهم الحجة التفصيلية، وشيخ الإسلام يقول: لا يمكن تكفيرهم حتى تقام عليهم الحجة التي يكفر المخالف لها.
فالذي يقول: إني أسألك مرافقتك في الجنة.
لا يسأله لأن الرسول سوف يعطيها له، لكنه يقصد: دلني على عمل أكون به من مرافقيك في الجنة، وهذا هو معنى الكلام، فهو يقول: قصدي من قولي: اغفر لي، يعني: ادع الله أن يغفر لي، فنقول له: إن قولك (اغفر لي) التلفظ بها شرك وكفر، ونقيم عليه الحجة بأن المغفرة لا تكون إلا من الله {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:١٣٥].
والنوع الثالث هو ما يبدع فيه المخالف مع الاتفاق على عدم تكفيره، وقد مضى من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أن قول أحمد لا يختلف على عدم تكفير الشيعة المفضلة وهم الزيدية الذين يقرون بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان ويفضلون عليهم علياً رضي الله عنهم أجمعين.
وكذا المرجئة فإن الإمام أحمد لا يكفرهم -انظر (١٢/ ٨٨٥ - ٨٨٦) من الفتاوى- بل هم من ضمن فرق الأمة رغم أنهم مبتدعة في المسائل الاعتقادية، ومثل هؤلاء الأشاعرة والماتريدية الذين يؤولون بعض الصفات دون بعض.
وهؤلاء لا نعلم أحداً من أهل العلم يقول بتكفيرهم، ومن هذا النوع: إنكار أصل أن الله لا يعذب أحداً قبل بلوغه الحجة، وبالذات في العقيدة باتفاق، ونحن لن نكفر المخالف الذي يقول: يمكن أن يعذب الله البعض قبل بلوغ الحجة؛ لأنهم لا يعذرون بالجهل، وعندنا أن العذر بالجهل يثبت في حق من لم يبلغه شيء، ولم تصله الحجة، ومن زعم أنه معذب فقوله بدعة اعتقادية باتفاق، ولكن لا نكفر هذا المبتدع، وقد نقل عليه الإجماع ابن تيمية وابن حزم.