للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[آثار الصحابة في مشروعية الإنكار في الخلاف غير السائغ]

روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل)، فقال ابن لـ عبد الله بن عمر: لا ندعهن يخرجن فيتخذنه دغلاً، قال: فزجره ابن عمر وقال: أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: لا ندعهن، وفي رواية فضربه في صدره، قال النووي: فيه تعزير المعترض على السنة المعارض لها برأيه مع أن له وجهة، وعائشة رضي الله عنها قالت: (لو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن)، ومع ذلك ضرب ابن عمر ابنه لأنه عارض السنة برأيه لكي يعاقبه في رده لهذا الخبر.

وفي رواية أبي عمر بن عبد البر في جامع العلم وفضله: قال بلال بن عبد الله بن عمر: أما أنا فسأمنع أهلي، فمن شاء فليسرح أهله -كلمة يسرح كلمة سيئة، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أذن- فالتفت إليه وقال: لعنك الله، لعنك الله، لعنك الله - ابن عمر رضي الله عنه يلعن ابنه- تسمعني أقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ألا يمنعن، فقام مغضباً.

وروى أبو عمر أيضاً بسنده عن ابن عباس قال: (تمتع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: عروة بن الزبير نهى أبو بكر وعمر عن المتعة، فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون، أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: نهى أبو بكر وعمر، وفي رواية له قال: والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله، أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثوني عن أبي بكر وعمر)، مع أن ابن عباس يعرف قدر أبي بكر وعمر أعظم معرفة.

قال أبو عمر يعني: متعة الحج، وهو فسخ الحج إلى العمرة.

إذاً: الذي يعارض السنة بآراء الرجال فهذا خلاف غير سائغ، فعندهم إنكار على من يخالف السنة، مع أن عروة هو أحد الفقهاء السبعة، وأبو بكر وعمر هما أعلم من ابن عباس بكثير، لكن الذي يخالف السنة ينكر عليه، وهذا أصل عظيم في قضية الإنكار في مسائل الخلاف، وكان يقول: سيأتيكم عذاب ستنزل عليكم حجارة من السماء ستهلكون، وهذا إنكار غليظ.

وروى أيضاً أبو عمر عن صفوان بن محرز: أنه سأل عبد الله بن عمر عن الصلاة في السفر، فقال: ركعتان، من خالف السنة كفر.

مع أن المسألة قال بها عائشة وعثمان رضي الله عنهما، والمقصود هنا كفر النعمة وعدم شكرها كما بينه في التمهيد.

وروى مسلم في صحيحه عن أبي الأشعث قال: غزونا غزاة وعلى الناس معاوية -أمير في عهد عمر - فغنمنا غنائم كثيرة، وكان فيما غنمنا آنية من فضة، فأمر معاوية رجلاً أن يبيعها في أعطية الناس، فتسارع الناس في ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت، فقال: (إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءً بسواء عيناً بعين، فمن زاد أو استزاد فقد أربى).

فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية، فقام خطيباً فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه، فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة.

ومعلوم أن صحبة معاوية رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم كانت قليلة، وأما عبادة بن الصامت فهو من المبايعين الأوائل في بيعة العقبة، فلا شك أنه أعلم منه بالتأكيد، فـ معاوية لما قام فتكلم قام عبادة بن الصامت وأعاد عليه الحديث مع أن معاوية هو الأمير، ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية، أو قال: وإن رغم معاوية، ما أبالي ألا أصحبه في جنده، ليلة سوداء.

يعني: الليلة التي يرد فيها الناس كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا إنكار منه على معاوية رضي الله عنه، ومعاوية ظن أنه أخطأ في النقل، لكن عبادة أغلظ له كثيراً جداً، وقال: تلك ليلة سوداء التي يتكلم فيها أحد عن أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، ورغماً عن الأمير سنقول.

هذا إنكار شديد بلا شك.

لذا نقول: غير معروف عند الصحابة أن رجلاً يخالف السنة ولا ينكر عليه، حتى ولو كان مجتهداً أو عالماً، فهم ينكرون على كل من خالف السنة، فضلاً عن أن يكون مخالفاً لنص من الكتاب، ومثله من يخالف الإجماع أو القياس الجلي.

وروى أبو عمر عن أبي الدرداء قال: من يعذرني من معاوية؟ أحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني برأيه، لا أساكنك بأرض أنت فيها، وأرسل لـ عمر بن الخطاب، فقال له: لا بارك الله في أرض لست فيها، وأمر معاوية أن يرد كل البيوعات التي وقعت في الربا.

وروى مسلم في صحيحه عن عروة بن الزبير: أن عبد الله بن الزبير قام بمكة وقال: إن ناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة، يعرض برجل -يعني: ابن عباس رضي الله عنه- هل هناك تغليظ أكبر من هذا؟! وابن عباس كان قد عمي في آخر عمره، فيعرض بفتواه في جواز نكاح المتعة، فدعاه ابن عباس، فقال: إنك لجلف غليظ -هذا في الخطبة- لعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ابن الزبير: فجرب لنفسك، فوالله لئن فعلت لأرجمنك بأحذيتك.

فرغم شدة هذه الأقوال بين الصحابة رضي الله عنهم إلا أنه يدل على اتفاقهم على الإنكار على من خالف السنة؛ لأن ابن عباس قال له: جلف غليظ؛ لأن ابن الزبير لديه حديث، ويجزم ببطلان ما عليه ابن عباس؛ لأن الحديث الذي رواه ابن عباس منسوخ، فهم اختلفوا في المسألة، لكن اتفقوا على التغليظ في الإنكار لمن خالف السنة.

وقد سبق قول عائشة رضي الله عنها لأم ولد زيد بن أرقم: أبلغي زيد بن الأرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب.

والأحاديث متواترة في الأمر بقتال الخوارج وذمهم مع أنهم كانوا يظنون أنفسهم من أحسن الناس، وكذلك أحاديث قتال مانعي الزكاة، وكلها في الصحاح والسنن والمسانيد، وهؤلاء كانوا متأولين ولأجل هذا لم يكفَّروا، لكنه لم يمنع من الإنكار عليهم بالقتال، والقتال أبلغ درجات الإنكار، وكذا الأمر بقتال الفئة الباغية إذا ظهر بغيها رغم تأويلها حتى تفيء إلى أمر الله.

وجميع الأدلة والآثار السابقة وغيرها كثير تدلنا على طريقة الصحابة رضي الله عنهم في الإنكار على من خالف الكتاب والسنة إذا بلغته وعارضها بآراء الرجال.

<<  <  ج: ص:  >  >>