[ثبوت الاختلاف لا يثبت تعدد الصواب]
أما وقوع اختلاف التضاد بين المسلمين, وأن الحق واحد في قول أحد المجتهدين, ومن خالفه مخطئ في الأصول والفروع في العقائد والأعمال في الأمور العلمية والأمور العملية؛ فهو الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم, وعليه أئمة العلم.
يريد هنا إثبات وجود هذا الاختلاف, وأن الاختلاف في الأقوال المتضادة ليس كلها مما يسوغ الأخذ به، وهذا يهمنا في مسألة التلفيق بين المذاهب، يعني: هل التراث الإسلامي معناه: كل قول قيل أو وضع في كتاب من الكتب، بمعنى: أن المجتهدين اليوم اقتصر دورهم على فتح الكتب، واختيار المناسب لنا من تلك الأقوال المتضادة المتعارضة، وإن لم يجدوا في هذا المذهب يجدوا في هذا، على هذا ظنهم أن الاختلاف رحمة؛ لأن اختلاف التضاد واقع, وقول واحد هو الحق وما خالفه هو الباطل، هذا ينفي مسألة التلفيق، وأن الناس ليسوا في سعة.
نقول: الأصول والفروع والعقائد والأعمال هذه كلها مترادفات -وإن كان هذا الاصطلاح فيه نظر؛ إذ لا ينبغي أن تسمى الأصول بالعقائد، أو بالأمور العلمية، والفروع بالأمور العملية أو الأعمال.
الصحيح: أن الأصول هي ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم من أصول الإيمان والإسلام والإحسان، فهذه كلها أصول، ومن الخطأ تأدباً أن نسمي مسألة اعتقادية كمسألة هل الخضر نبي أو ولي؟ مسألة أصلية, ووجوب الصلوات الخمس نسميها مسألة فرعية.
وإن قلنا هذا الاصطلاح فلا مشاحة فيه، ولا بأس به، فقولنا: الأصول والفروع نحن نجري فيه معهم على اصطلاحهم، سواء في الأصول أو الفروع، سواء في الأمور الاعتقادية أو الأعمال، فالمجتهد المصيب واحد ومن خالفه مخطئ، وهذا عليه الكتاب والسنة والإجماع وأئمة الأمة، وإن اختلف عنهم في النقل، وستجد هذه المسألة مذكورة في كتب الأصول كلها في باب الاجتهاد, كما سنجد من العلماء من يقول: عندنا في المسألة قولان، والذي يتأمل الأقوال يجد أنه لا يوجد اختلاف في الحقيقة، وأن هناك إجماعاً بين أهل العلم في المسألة, ولكن يقصدون بالمصيب أنه قد أدى ما عليه، وأصاب فيما فعل, بمعنى أنه بذل جهده، لا أنه أصاب الحق الذي هو عند الله, أو أن الحق متعدد كالواجب المخير؛ فحتى وإن اختلف عنهم النقل إلا أن الصحيح من مذاهبهم وقوع هذا النوع، وهو الذي لا يشك فيه من نظر إلى أقوالهم ومناظراتهم، وتخطئتهم بأقوال مخالفيهم إما يقيناً وقطعاً فيما كان دليله قطعياً، وإما ظناً فيما كان دليله ظنياً، ولا شك أننا نجزم بوجود نوعين من الأدلة القطعية والظنية، وبناءً عليها سنحكم على المخالف بأنه مبتدع, أو القول المخالف بدعة، أو أن المخالف قوله خطأ فقط، وهذه الأدلة أيضاً ذكرها ابن قدامة في الاستدلال لهذا المذهب: المصيب واحد ومن خالفه مخطئ.
قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:٧٨ - ٧٩]، هذه الآية مهمة جداً في إثبات وجود خلاف التضاد في المسائل الاجتهادية, وأن كل مجتهد مصيب وهو واحد، ومن خالفه مخطئ، ومع ذلك لا يذم من خالفه إذا كان قد أدى وسعه؛ لأن الله أثنى على داود وسليمان، وبين أنه فهمها سليمان في قصة معروفة: وهي أن أناساً كان لهم زرع، وكان الآخرين غنم، فنفشت وسرحت الغنم بالليل وأكلت الزرع، فقضى داود عليه السلام بينهم: بأن يأخذ أصحاب الزرع الغنم بديلاً عنه؛ لأن قيمة الغنم كانت تساوي قيمة الزرع، فخرجوا إلى سليمان عليه السلام، فقضى بأن يأخذ أصحاب الزرع الغنم حتى يصلح أصحابه ما أفسدته غنمهم فيأخذون من ألبانها طول تلك المدة إلى أن تصلح الأرض فتعاد إليهم ويعود الغنم إلى أصحابه، قال تعالى: ((فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ))، بحكم أنهما مختلفان.
قال: فلو استويا في إقامة الحكم لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم معنى، والآية تدل على أن المجتهد الذي بذل وسعه في البحث عن الحق فأخطأه يرفع عنه الإثم، بل يثاب على اجتهاده؛ لأنه سبحانه مدح كلاً منهما وأثنى عليه بقوله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:٧٩].
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر)، رواه مسلم.
قال ابن قدامة: وهو حديث تلقته الأمة بالقبول، من رواية مسلم التي لم ينازع فيها، ومع أنه من خبر الواحد لكنه تلقي بالقبول من الأمة ولم ينكره أحد فهذا يفيد العلم القطعي بصحة نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول: وهو صريح في أنه يحكم باجتهاده فيخطئ ويؤجر دون أجراً المصيب.
إذاً: هناك مجتهد مصيب ومجتهد مخطئ، أما المصيب فإنه يأخذ أجران، وأما المخطئ فإنه يأخذ أجراً واحداً.
انتهى كلام ابن قدامة.
والحديث يرد على القاعدة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قسم المجتهدين إلى نوعين عند الاجتهاد؛ أحدهما مصيب والآخر مخطئ، وهذا صريح جداً في انقسام الاجتهاد إلى خطأ وصواب.