للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حرمة تتبع الرخص في المسائل الاجتهادية]

تنبيه هام جداً: ليس معنى قولنا: إن الخلاف سائغ أنه يجوز لكل واحد أن ينتقي من الأقوال ما يشتهي، بل هذا خطأ كبير جداً يقع فيه الكثيرون، وبعضهم يقول: كل الأقوال صواب، بل إن الاجتهاد فيه خطأ وصواب، وهذا القول أوله طقطقة وآخره زندقة، الذي يصوب كل المجتهدين، وبالتالي يختار من أقوالهم ما يشتهي، هذا أمر خطير للغاية، وهذا يقع فيه طوائف إسلامية كثيرة في الوقت المعاصر، فالإخوان المسلمون مذهبهم على ذلك، وكذا علماء الأزهر مذهبهم على ذلك، ولجان الفتوى تعمل بهذه الطريقة، فتنتقي القول الأيسر على الناس من المذاهب، ولا تلتزم بالأدلة.

والشيخ يوسف القرضاوي مذهبه بهذه الطريقة، حيث يبحث عن الأسهل للناس، بدون نظر في الأدلة، إنما يقول: الإمام أبو حنيفة قال كذا، والإمام الفلاني قال كذا، وأنا آخذ بهذا القول، مثل قوله: ابن حزم قال: الموسيقى حلال، فأنا أقول مثله ولا أحد يناقش في الأدلة! وعنده أن أي قول قيل في المسألة فله أن يأخذ به ويفتي به الناس! وعندما تم الاستغناء في الدستور المصري على جعل الشريعة المصدر الرئيسي بدءوا في الأزهر يعدون لجاناً لتقنين الشريعة، فهذه اللجان تسير بهذه الطريقة، وإذا لم يجدوا في مذاهب أهل السنة قولاً فيه تيسير أخذوا من المذاهب المذاهب الأخرى كالظاهرية والزيدية والإمامية والإباضية الخوارج، فصار عندنا ثمانية مذاهب، وعندهم فتوى بتسويغ العمل بالمذهب الإمامي؛ لأنه مذهب فقهي كسائر المذاهب، وهذا أمر خطير للغاية.

فنقول: ليس معنى قولنا: إن الخلاف سائغ أنه يجوز لأي أحد أن ينتقي من الأقوال بالتشهي دون اجتهاد، فهذا سبيل للزندقة والانحلال، وقد أجمع العلماء -كما نقل أبو عمر بن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله- أنه لا يجوز تتبع رخص العلماء فضلاً عن الزلات والسقطات.

يعني: ما يأخذ قول أهل مكة في الصرف، وأهل المدينة في السماع، وأهل العراق في الشراب فإذا فعل ذلك اجتمع فيه الشر كله.

فالعالم المجتهد يلزمه البحث والاجتهاد وجمع الأدلة والنظر في الراجح منها، فما ترجح عنده قال به وعمل به في خاصة نفسه وأفتى به، وينبغي في المسائل التي تعم بها البلوى أن يشير إلى الخلاف فيها مع بيان ما يراه صواباً، وهذا هو المسلك الأمثل، فطريقة العلماء الكبار الإشارة إلى الخلاف كما استنبط ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من سورة الكهف، قال: إن ربنا سبحانه وتعالى ذكر الخلاف فيها فقال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف:٢٢]، وهذا ترجيح للقادم، ثم قال: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:٢٢]، فلما ذكر الرجم بالغيب بعد القولين السابقين، وسكت عن الأخير، هذا فيه إشارة إلى ترجيح القول الأخير.

ثم ذكر سبحانه وتعالى ثمرة الخلاف فقال: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:٢٢]، ومع أن الخلاف فيها قليل الفائدة، فإن الله رجح فيها الصواب، ورد العلم إلى الله سبحانه وتعالى في آخر الأمر فقال: ((قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ)).

<<  <  ج: ص:  >  >>