[التنافس على الدنيا من أسباب الاختلاف المذموم]
من أسباب الاختلاف المذموم: البغي والتنافس على الدنيا.
والباغي هو من يجاوز الحد الذي من المفروض أن يقف عنده إلى ما عداه، قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:٢١٣] , إذاً: الاستطالة على المسلمين والمؤمنين نهى الله عنها.
قال: والذي يؤدي إلى البغي الكبر المنافي للتواضع والتنافس على الرئاسة والوجاهة، وسائر شهوات الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد).
والبغي سببه عدم التواضع والكبر والعياذ بالله، فيحب هذا الإنسان أن يكون هو الأعلى، ويقول: أنا الأول، أنا المقدم، وغيري تابع لي.
قال صلى الله عليه وسلم: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم)، صدق الرسول صلى الله عليه وسلم الرءوف الرحيم؛ فإن التنافس في الدنيا وعلى رئاستها ووجاهتها من أعظم أسباب هلاك من هلك، وتأمل في التاريخ كيف كان قتل عثمان رضي الله عنه ظلماً وبغياً، ومنافسة ممن قتلوه على رئاسة أرادوها وليسوا لها أهلاً، فهؤلاء الرءوس كانوا يريدون أن يكونوا هم الرؤساء، ويريدون أن يخلعوا عثمان عن الخلافة طمعاً فيها وهم ليسوا لها أهلاً, وما جره ذلك على الأمة من الفتنة التي لم تصب الذين ظلموا خاصة بل عمت الصالحين وغيرهم، ثم لما وقعت الفتنة، قالوا: كنا نظن أننا من أهلها: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:٢٥]، ولذا كان علي بن أبي طالب يبكي على هؤلاء ويبكي على هؤلاء، ويصلي على هؤلاء ويصلي على هؤلاء رضي الله عنه.
وتعطلت الفتوحات مدة بسبب ما حدث من قتال وفتن، فمضت خمس سنوات دون حصول فتوحات، فمن عهد أبي بكر وعمر وعثمان والإسلام ينتصر انتصاراً بعد آخر, ولما وقعت الفتنة بقتل عثمان توقفت الفتوحات حتى اجتمعت الأمة بعد ذلك, وذلك بسبب أهل الدنيا الذين أشعلوا نار الحرب بين الفريقين، وكلاهما يحاول إطفاءها، ولكن أهل الدنيا هم الذين كانوا يشعلون الفتنة.
وتأمل كذلك حال المسلمين يوم سقوط بغداد في أيدي التتار، ذلك السقوط التاريخي الذي ما سمع في التاريخ بمذبحة مثله؛ قتل فيه مع الخليفة وحاشيته على أقل التقديرات ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف، وذكر صاحب البداية والنهاية القولين، وهذا كان في عاصمة الخلافة الإسلامية، وتأمل في حال المسلمين في تلك الفترة.
ما حركوا ساكناً، وظل كل أمير وملك مشغولاً بملكه وملذاته وصراعاته حتى الخليفة نفسه يذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: أنه بينما كانت جارية ترقص بين يدي الخليفة أصابها سهم فقتلها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فكان التتار على أبواب بغداد والملوك مشغولون بدنياهم ورقص الجواري بين أيديهم حتى دخلت عليهم البلاد فقتلوا كما هم.
نسأل الله عز وجل أن يرحمهم.
وقد نصح الخليفة وزراء السوء بالخروج إلى هولاكو بالهدايا -ودائماً ما يكون خلف أمثال هذه المشاكل أهل البدع- فقبل صاغراً, وأهين أعظم إهانة حتى قتل رحمه الله وغفر له ولجميع المسلمين والمسلمات.
وكذلك من تأمل أحوال ملوك الطوائف في الأندلس قبل سقوطها الذريع في أيدي الفرنجة، وما فعلوه بأهلها من الظلم والقتل وانتهاك لكل الحرمات، وأعظمها فتنتهم عن دينهم, فسقوط الأندلس كان أشد من سقوط بغداد؛ لأن بغداد إلى اليوم فيها مسلمون، والأندلس هي الوحيدة التي حصل فيها استئصال للمسلمين بالكلية وأبيدوا إبادة تامة بعد محاكم التفتيش التي كانت في الأندلس، وكان سببها لو نظرنا أهل البدع وموالاتهم.
فأيام الخلافة العباسية كان فيها موالاة للشيعة وكان وزير المسلمين فيها ابن العلقمي الرافضي وهو الذي أشار على الخليفة أن يخرج لـ هولاكو والعياذ بالله.
فالوزير كان رافضياً وكان يريد ينتقم من الخليفة؛ لأنه كان قد وقعت وقعة قبلها بمدة بين أهل السنة والشيعة، فيريدون أن ينتقموا منهم، فقال له: اخرج له ببعض الهدايا, فأهين أعظم إهانة , ثم أشار بقتله الآخر نصير الدين الطوسي أو نصير الكفر بمعنى أصح, وكان شيعياً باطنياً من غلاة الشيعة، أما أمراء الأندلس فكانوا يوالون الكفار أنفسهم.
فتجد أنهم كانوا يستعينون بالكفار على بعضهم في حروبهم، لأن الملوك والطوائف حكمت مدة طويلة وكان الكفار يأخذون بلاد الإسلام جزءاً إثر جزء.
نقول: فكانت الصراعات فيما بينهم، وموالاة النصارى على بعضهم بعضاً من أعظم أسباب الانهيار، فالتنافس على الدنيا سبب البغي، والبغي سبب الاختلاف والفرقة وهي سبب الضعف وذهاب الريح وتسلط الأعداء، ولا علاج لذلك إلا بإخلاص النية لله سبحانه والتنافس على الآخرة، كما فرضه الله وقال الله: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٦١] وقال: {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:٢٦].
فالتنافس على الآخرة لا يجلب حسداً ولا حقداً ولا طوائف ولا بغياً, وإنما يثمر حباً صادقاً وتآلفاً وإخاء، ووحدة في الصف, وقوة على الأعداء.
والحقيقة أن كثيراً مما يجري بين الاتجاهات الإسلامية المعاصرة من اختلافات مريرة على المناهج والأفكار والأولويات والأعمال سببه الجهل وحب الرئاسة وحب كثرة الأتباع، فلولا هذه الأمور لما أثمرت هذه الثمار المرة في التعاملات التي تجري بين هذه الاتجاهات وأفرادها.
ومن أعظم وأهم أسباب العلاج: أن نعلم حرمة دم المسلم، وحرمة والاستطالة عليه أياً من كان، طالما بقي في دائرة الإسلام ولم يخرج منها إلى الكفر، فنتعامل بشرع الله مع من عاملنا به، ومع من لم يعاملنا.
فإذا كان هو يراعي حرمتي فأنا عليّ أن أراعي حرمته لأنه مسلم, وحتى لولم يراع هو حرمتي فأنا أراعي حرمته؛ فما عاقبت من لم يتق الله فيك بمثل أن تتقي الله فيه.
لو أنك اتقيت الله فيه فهذا هو عقابه أحسن عقاب للذي يظلمك ألا تظلمه، والحذر واجب في تناول أحوال المخالفين من الوقوع في الغيبة باسم النصيحة, ومن تلمس العثرات، والفرح بالسقطات تحت شعار بيان الحق, ومن خديعة الشيطان للتنافس على المنازل والرياسات الدنيوية تحت شعار الحرص على إمامة المتقي، فهذه الأمور التي نقول هي حق يلتبس فيها في أحيان كثيرة الخطأ, يقول: أنا أريد أن أكون من أئمة المتقين {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:٧٤]، فأنا سأقتل غيري حتى أكون أنا الإمام والخطيب والمدرس والقائد العسكري، لا.
هذا لا يصح أبداً، فالنيات أمر مهم بلا شك، والنصيحة للمسلمين واجبة, وكشف الباطل وبيان الحق واجب، والحرص على إمامة المتقين من صفات عباد الرحمن وإن لم تكن بالضرورة عن طريق الرئاسة عليهم، فكم من إمام للمتقين وهو في زمرة المغمورين الخاملين غير المشهورين: (رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)، ولكن المشكلة الحقيقية في النية والإخلاص والزهد الحقيقي في الدنيا وترك البغي.