لكن هل يكون هناك خلاف سائغ مع وجود الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة؟ يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر، إذاً: نقول إن ربنا سبحانه وتعالى إنما قال: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}[الشورى:١٤] لما يأتي العلم وتأتي البينات ويتفرقون بغياً فهذا هو الاختلاف المذموم {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}[الشورى:١٤].
قال ابن كثير رحمه الله:((أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)) أي: أوصى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والجماعة، ونهاهم عن التفرق، وقال تعالى في ذم أهل الكتاب في تحذير لنا من مشابهتهم:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة:٢١٣]، كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
هذا معنى الآية.
((وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ))، فلا بد من الكتاب الذي فيه حكم ونص في ذلك، وكذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.
قال الله عز وجل:((وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ))، دائماً نلحظ أن سبب الخلاف غير السائغ هو الذي يكون بعد ظهور الحق.
روى عبد الرزاق عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم, فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، الناس لنا فيه تبع، فغداً لليهود، وبعد غد للنصارى)، فمثل هذه الاختلافات مذمومة باطلة.
يقول: أما أدلة السنة: فروى الإمام أحمد وأبو داود والدارمي والحاكم والآجري في الشريعة وحسنه الألباني عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهم الجماعة)، وفي رواية الترمذي والطبراني:(هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، لذا نؤكد أن منهج السلف، وما أجمع عليه السلف من الصحابة رضي الله عنهم ومن كان على طريقتهم لا يسوغ فيه الخلاف، ويسعنا ما وسعهم، وما أجمعوا عليه فهو ضمن الحق المقطوع به ضمن البينات؛ لأن إجماعهم معصوم من الضلال والخطأ.