[حكم التلفيق بين المذاهب]
من الخطأ ما يفعله كثير من أهل زماننا في مسائل الخلاف السائغ وغير السائغ بأخذ ما يشتهي، بل يفعله كثير من المنتسبين إلى العلم، ويفتي البعض بجواز التلفيق بين المذاهب لا بحسب أدلة الاجتهاد.
والذي نحن عليه والإخوة الدعاة في أكثر المسائل يعتبر تلفيقاً، فعندما آخذ بقول الإمام الشافعي بوجوب القراءة خلف الإمام مثلاً، ولا آخذ بقول الإمام الشافعي في كل المسائل، هذا يسمى تلفيقاً، لكن هذا تلفيق مبني على الدليل، ولا يلزم طالب العلم أن يأخذ مذهباً واحداً ولا يخرج عنه.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مذهبه الحقيقي في الاختيارات الفقهية يعتبر تلفيقاً، لكنه تلفيق مبني على اجتهاد.
وفي مسائل خالف فيها مذهب الحنابلة بالكلية، واختار قولاً ليس موجوداً أصلاً في المذهب، فهذا تلفيق شرعي، وهو في الحقيقة الواجب على مثل شيخ الإسلام؛ لأن شيخ الإسلام عالم مجتهد، فكونه اجتهد ورجح هذا القول يلزمه أن يقول به، وإن سماه غيره تلفيقاً، فعنده القدرة على الترجيح بين المذاهب.
فالشرع قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، وإجماع أهل العلم، والقياس على هذه الأصول، أما أن يتحول الشرع إلى أن أي قول من أقوال العلماء هو الشرع، وأن من أخذ به فهو آخذ بالشريعة، وأن الخلاف رحمة وإن خالف النصوص؛ فهذا كلام فاسد يؤدي إلى الزندقة والانحلال، ويلزم من هذا القول أن الملاهي الليلية لا بأس بها، والنظر إلى عورات أهل الذمة لا بأس به؛ لأن سفيان الثوري قال بجواز النظر إلى عورات أهل الذمة وشعور نساء أهل الذمة، وأن المحرم النظر إلى المؤمنة فقط، والموسيقى أجازها ابن حزم والبيرة أجاز الحنفية الشرب منها بغير سكر، وبهذا التلفيق تكون الملاهي جائزة مع أن عوام المسلمين وفساقهم يعرفون حرمتها بلا شك.
فأهل الأهواء التلفيق عندهم بحسب التشهي والانتقاء لا بحسب الأدلة والاجتهاد، فكل ما يظنونه مصلحة أو فيه تيسير على الناس يجوزونه بدون نظر في الأدلة! قال أبو عمر بن عبد البر: الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله.
وأبو عمر من أعلم الناس بمذاهب المتقدمين.
وقال المزني: يقال لمن جوز الاختلاف وزعم أن العالمين إذا اجتهدا في الحادثة فقال أحدهما: حلال والآخر: حرام، فقد أبد كل واحد منهما جهده وما كلف به، وهو في اجتهاده مصيب للحق: هل قلت هذا بأصل أم بقياس؟ فإن قال: بأصل، قيل: كيف يكون هذا أصلاً والكتاب أصل ينفي الخلاف؟ لأن ربنا قال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:٧٩]، وإن قال بقياس، قيل: كيف تكون الأصول تنفي الخلاف، ويجوز لك أن تقيس على هذا الخلاف؟ هذا ما لا يجوزه عاقل فضلاً عن عالم.
ويقال له: أليس إذا ثبت حديثان مختلفان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى واحد أحله أحدهما وحرمه الآخر، وفي كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على إثبات أحدهما ونفي الآخر أليس يثبت الذي يثبته الدليل ويبطل الآخر ويبطل الحكم به قطعاً، فإن خفي الدليل على أحدهما وأشكل الأمر فيهما وجب الوقوف؟ فإذا قال: نعم، قيل له: فلم لا تصنع هذا برأي العالمين المختلفين، ويثبت منهما ما يثبته الدليل، ويبطل ما أبطله الدليل؟! هذا كلام متين جداً من المزني صاحب الشافعي رحمه الله، وهذا ينقله عن كل العلماء، فليس الخلاف نفسه حجة، وليس كلام العالم حجة، وليست الشريعة جملة الأقوال، فهذا كلام في منتهى الخطورة، وهو مخالف للإجماع القديم فعلاً، وهذا مما لا شك فيه.
وكلام المزني مذكور في (جامع بيان العلم وفضله) للإمام أبي عمر بن عبد البر (ص٣٥٦).
إذاً: في الخلاف السائغ: يجب على العالم المجتهد أن يجتهد ويعمل ويفتي بالقول الراجح لديه حسب اجتهاده من الأقوال المختلفة، ولا يسعه أن يفتي الناس بما يشتهون، أو بما يشتهي هو، أو بما يشتهي غيره، أو لمجرد الأيسر؛ ظناً أن الخلاف السائغ معناه الانتقاء من الأقوال، وعلى العامي أن يسأل من يثق به من أهل العلم، فإن سأله برئت ذمته، وأما إن سأل من لا يثق به فلا تبرأ ذمته، بل يكون آثماً.