[ما يكون فيه الخلاف السائغ]
إن الخلاف السائغ هو ما لا يخالف نصاً من كتاب أو سنة صحيحة، أو إجماع قديم؛ ومعنى قديم: أنه سبق وجود الخلاف, والإجماع الذي يمكن ضبطه هو ما نقله المتقدمون من العلماء بحيث انتشر واشتهر بخلاف الإجماع الذي يدعى مثلاً في العصور المتأخرة، فهذا من العسير جداً إثباته، لانتشار الأمة انتشاراً هائلاً، ووجود كثير من العلماء وغيرهم ممن لا يكون مشهوراً، فكيف يمكن ضبط ذلك؟ إذاً: الإجماع المنضبط هو الإجماع القديم، أو القياس الجلي الواضح والذي تكون العلة فيه ظاهرة.
نقول: هذا سواء كان في الأمور العلمية الاعتقادية -وهذا نادر- أو في الأحكام التي هي الأمور العملية، ولعل ندرة المسائل الاعتقادية التي فيها خلاف سائغ ليس عليه دليل ظاهر هو السبب الذي جعل كثيراً من العلماء يبدعون من خالف في مسائل الأصول.
يعني: بعض الدعاة يقولون: الخلاف في مسائل العقيدة بدعة وضلال، وفي مسائل الفقه خطأ وصواب، وهذا الضابط غير صحيح، وإن كان بالنظر إلى الأغلب صحيح؛ لأن معظم المخالفين في العقائد مخالفون لأدلة قطعية, ومعظم المخالفين في الأحكام مخالفون لأدلة ظنية، وبالتالي نصحح هذا الكلام تجوزاً، بمعنى أنه في الأغلب الأعم يكون الأمر كذلك، لكن الضابط الصحيح: أنه ليس كل خلاف في العقيدة يبدع المخالف فيه, ولا كل خلاف في الفروع يخطأ فقط، بل يمكن أن يكفر كما لو جاء من قال: الصبح أو الظهر ثلاث ركعات، فمثله لو أصر يكفر.
يقول: وذلك لأن معظم المسائل الاعتقادية الكبرى عليها الأدلة القاطعة كتاباً وسنة.
والصحيح أيضاً: أن مسائل الإسلام الكبرى عليها أدلة قطعية، مثل الصلوات الخمس وصوم رمضان والزكاة والحج، ومسائل تحريم الربا هي مسائل كبيرة جداً في المعاملات في الإسلام، من أجل هذا قلنا في البداية: ينبغي أن نقول: الأصول هي المسائل الكبرى, والفروع هي المسائل التي ليس عليها دليل واضح.
يقول: ومعظم المسائل الاعتقادية الكبرى عليها الأدلة القاطعة كتاباً وسنة، وفيها إجماع الصحابة والسلف منقول ومشهور، ولهذا كان المخالف فيها في الأغلب الأعم مقصراً مستحقاً للعقاب في الدنيا والآخرة، وإلا فالحقيقة لو أن المخالف بذل جهده، ولم يكن في زمنه أو في بلده الدليل الواضح حتى لو كانت مسألة اعتقادية يبدع فيها المخالف قد نعذره، وسيفيدنا هذا الكلام في العلماء الذي نسب إليهم أقوال نجزم أنها بدعة، مثل الإمام النووي الذي يقول في بعض الصفات بالتأويل، وكالإمام ابن القيم الذي يقول بفناء النار -نار الكفار وليس نار الموحدين- وهذا القول نحن نجزم بأنه بدعة وضلالة، بل ربما كان أشد من ذلك، ومع ذلك نقول ابن القيم أخطأ؛ لأنه لم يتضح له الدليل، ولم يكن هناك من يناظره ويوضح له.
من أجل هذا قلنا: كان المخالف في الأغلب الأعم، وإلا فأحياناً توجد مسألة عليها أدلة كثيرة لكنها لم تتضح للقائل بخلافها فيكون معذوراً، لكن الأغلب الأعم أن هذه الأدلة كثيرة جداً، والإجماع معروف، وبالتالي فالمخالف مقصر وآثم, ومن أجل هذا قلنا عن الجهم بن صفوان: المبتدع الضال, وقلنا عن الجعد بن درهم: عليه من الله ما يستحق، أو لعنة الله عليه، وقلنا: بشر المريسي الضال المبتدع, وقلنا في المقابل: الإمام النووي رحمه الله, وابن حجر رحمه الله, والغزالي رحمه الله، لماذا؟ لأن الغزالي والنووي قالوا في الحقيقة ببعض قول جهم , مع ما هو معروف عنهم من حرص على اتباع الحق ونصرة السنة, وعاشوا عمرهم على هذا، وفي زمانهم كان التأويل منتشراً جداً، ولا أحد ناظرهم فيه، وردهم إلى الصواب في هذه المسألة، ومن أجل هذا عذرنا مثل هؤلاء مع أن هذه حالة نادرة.
فنقول: معظم المسائل الاعتقادية الكبرى عليها الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة، وفيها إجماع الصحابة والسلف منقول مشهور, ولهذا كان المخالف فيها في الأغلب الأعم مقصراً مستحقاً للعقاب في الدنيا والآخرة، ولأجل كثرة المسائل التي ليس عليها دليل قطعي في المسائل العملية أطلق الكثير من العلماء أن الخلاف في الفروع اختلاف سائغ ولا يأثم المخالف فيه، وهذا الكلام نقله الشاطبي في الاعتصام، وابن قدامة في روضة الناظر، والغزالي في إحياء علوم الدين، فهم قالوا: إن الخلاف في الفروع خلاف سائغ, فيعذر المخالفون في زماننا والذين قالوا: إن الخلاف في الفروع خلاف سائغ من باب الأولى، وإن كان الكلام هذا ليس ظاهراً.