[اختلاف التنوع وأثره في تكامل الأمة]
أنواع الاختلاف الواقع بين المسلمين قديماً وحديثاً يمكن أن يقسم بالاستقراء لأدلة الشرع والنظر فيها وكلام أهل العلم إلى نوعين من الاختلاف: اختلاف التنوع، واختلاف التضاد، واختلاف التضاد يقسم بعد ذلك إلى اختلاف تضاد سائغ، واختلاف تضاد غير سائغ.
فأما النوع الأول وهو اختلاف التنوع: فهو ما لا يكون فيه أحد الأقوال مناقضاً للأقوال الأخرى بل كل الأقوال صحيحة، وهذا مثل وجوه القراءات، وأنواع التشهدات والأذكار.
فمن قرأ مثلاً: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:٤] يعلم صحة قراءة من قرأ (ملك يوم الدين) فهذا لا يكون مناقضاً هذا؛ لأن كلاً منهما قرأ بقراءة صحيحة ومتواترة، والكل يعلم أن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها كاف شاف كما ثبت في الحديث المتفق عليه، وكل هذه القراءات الثابتة الصحيحة قد نزلت من عند الله سبحانه.
كذلك من يقرأ بتشهد ابن مسعود: (التحيات لله، والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) لا يرى مانعاً من تشهد ابن عباس رضي الله عنه، أو تشهد عمر رضي الله عنه: (التحيات الطيبات المباركات)، (والتحيات الزاكيات لله) أو غيره من الصيغ، بل اتفق العلماء على جواز كل منها، وإنما اختلافهم في اختيار كل منهم لما يراه الأفضل لاعتبارات يراها، واختلاف التنوع مهم للغاية في هذا الباب.
ومن هذا الباب: الواجب المخير، وهو في الواجبات التي جعل الله عز وجل المكلف مخير فيها بين أن يفعل أحد هذه الأنواع ككفارة اليمين، وربنا سبحانه وتعالى جعل كفارة اليمين على مرتبتين: المرتبة الأولى قال فيها: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:٨٩].
فمن أخذ بإحدى هذه الأمور الثلاثة المذكورة في الآية أجزأته، وأما الصيام فلا يجوز الانتقال إليه إلا إذا عجز عن الثلاثة، فهناك ترتيب بين الثلاثة وبين الصيام، وليس أنه مخير بين الصيام وبين الثلاثة، فالثلاثة هي التي بينها التخيير فقط.
مثال آخر على الواجب المخير: ما وقع من الصحابة في غزوة بني قريظة، وهذه الواقعة يحتج بها كثيراً في إثبات أن كل الخلاف لا بأس به، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة يوم بني قريظة فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة).
فأدرك بعضهم العصر في الطريق فصلاها وقال: لم يرد منا إضاعة الوقت، وقالت طائفة: والله لا نصليها إلا في بني قريظة، فصلوها بعد غروب الشمس، ولم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم أياً من الفريقين، بل لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أصلاً تصويب فريق وتخطئة آخر، فدلت هذه السنة التقريرية منه صلى الله عليه وسلم على صحة فعل كل من الفريقين، ومن العلماء من يجعل أحد الفريقين مصيباً والآخر مخطئاً مغفوراً له لا ينكر عليه، على خلاف في أي الفريقين كان مصيباً، حيث إن من يقول بالقياس يقول: إن من صلوا في الطريق هم المصيبون، ومن يميل إلى الظاهر يقول: من صلوا في بني قريظة هم المصيبون، والصحيح أن كلا الفريقين مصيب، وأنه لا يفضل أحد الفريقين على الآخر، خلافاً لما ذهب إليه كثير من العلماء؛ فشيخ الإسلام ابن تيمية يرجح فعل من صلوا في الطريق دون من صلوا في بني قريظة؛ لأنهم جمعوا بين الفضيلتين.
والصحيح: أن صلاة العصر في هذا اليوم بعينه -يوم غزوة بني قريظة- كان واجباً مخيراً بين أن يصليها في الوقت -يعني: في الطريق- وبين أن يصليها في المكان بعد الوقت، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه أنكر -بل ولا صوب أو خطأ- كما فعل مثلاً فيمن أعاد الصلاة التي صلاها بالتيمم بعد أن وجد الماء، فقال للذي أعاد: (لك الأجر مرتين)، وقال للذي لم يقض: (أصبت السنة)، فبين لنا عليه الصلاة والسلام من المصيب، وتبين من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقر على الخطأ، كما حدث لـ عمار حينما اجتهد فتمرغ في التراب كما تفعل الدابة عند فقد الماء، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إنما كان يكفيك أن تضرب الأرض هكذا، وضرب الأرض بيديه ثم مسح وجهه ويديه)، فالرسول صلى الله عليه وسلم بين له الصواب في الأمر، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يقر على الخطأ حتى ولو كان مما يغفر لصاحبه.
فمن أجل ذلك نقول: صلاة العصر في هذا اليوم كان الرسول مخير لأصحابه بين صلاتها في الوقت في الطريق أو بعد الوقت في بني قريظة؛ لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم للفريقين، ولو كان أحدهما مخطئاً لما أقره صلى الله عليه وسلم، ولبين له الخطأ من الصواب.
ومن هذا الباب: تنوع الأعمال الصالحة، فالناس هممهم متفاوتة في أنواع الخيرات، فمنهم من يهتم بباب من أبواب الخير، وآخر يهتم بباب غيره، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان).
وهذا يوضح لنا معنى قوله: (من أنفق زوجين في سبيل الله) أي: تكرر منه العمل حتى صار من أهله، وليس أنه أنفق مالاً معيناً، ولذلك جعل الصلاة والجهاد والصدقة والصيام من هذا الباب، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (يا رسول الله! ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة)، يعني: لا ضرر عليه أن يدعى من أي باب يدخل الجنة، أبو بكر رضي الله عنه همته عالية جداً، فهو لا يفكر فقط أن يدخل جنة، بل يريد أن يبقى سباقاً في جميع أبواب الخير، ويريد أن يدعى من كل الأبواب فيكون ممن أنفق زوجين في الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم، وأرجو أن تكون منهم).
ومعلوم أن المقصود من هذا الاجتهاد في نوع خاص من هذه الأعمال مع أداء الواجب في غيرها.
وهذا كلام مهم جداً في اختلاف التنوع، بمعنى: أن الذي أنفق زوجين في الصلاة لا يترك الصيام أو الجهاد الواجب أو الصدقة الواجبة التي هي الزكاة.
فأهل الصلاة يصومون رمضان، ويؤدون الزكاة المفروضة، ويجاهدون في سبيل الله، ولكن جُلّ عملهم ومعظمه في الصلاة فرضاً ونفلاً، وكذا أهل الجهاد يصلون ويصومون ويزكون، ولكن معظم عملهم واجتهادهم في الجهاد فرض العين والكفاية.
وهذا النوع في غاية الأهمية؛ لأن همم العباد متنوعة، وقدراتهم وأفهامهم مختلفة، واستعداد كل منهم لنوع معين من العمل أمر فطري فيهم، والنادر من الخلق من له الهمة العالية والسبق في كل خير مثل أبي بكر.
لكن تجد أن الخير اجتمع في المتقدمين من الصحابة رضي الله عنهم، وتوزع فيمن بعدهم، فالصحابة مجاهدون وعلماء، ومجتهدون في العبادة، وقائمون بالليل ومنفقون، وأمراء يقودون الأمة في نفس الوقت، لكن بعد ذلك توزعت هذه الأبواب على من بعدهم.
فتجد رجلاً كـ مسلمة بن عبد الملك فتح بلاداً كثيرة جداً في أيام بني أمية لكن ليس له قول في الفقه، وكان الإمام مالك عالماً لكن لم تكن له مشاركات في الجهاد، وليس معنى ذلك أنه كان تاركاً للجهاد الفرض عليه، لا؛ لأنه لم يكن الجهاد فرض عين في وقته، إذ كان هناك من يقوم بالجهاد.
أما ابن تيمية فقد كان بارزاً رحمه الله، لكنه ليس كالصحابة، ويكفي أنه ما تزوج من أجل أن يتفرغ للأمور الأخرى، وهذا من النقص عند شيخ الإسلام ابن تيمية.
أما أكثر الخلق فلا تجتمع فيهم الهمة في كل شيء، وهذه الأعمال الصالحة المتنوعة مطلوبة كلها، وتكامل المسلمين فيها هو الذي يأتي بأفضل النتائج.
إذاً: خلاف التنوع خلاف محمود وليس بخلاف مذموم، وقد وجد في المسلمين من كان اهتمامه بطلب العلم وتعليمه للناس، فكان على ثغرة من ثغور الإسلام يؤدي هذا الواجب، قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:١٢٢].
وأهل العلم وطلابه أنفسهم تنوعت هممهم، فمنهم من قضى عمره في طلب الحديث ومعرفة طرقه ورجاله وصحيحه وضعيفه، فكفى الله به المسلمين في هذا المجال، أمثال الإمام البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبي داود، فهؤلاء كان جل عملهم في الحديث، ومنهم من كان الاستنباط والفهم والفقه في الكتاب والسنة هو شغله الشاغل كالإمام الشافعي.
ولو قارنا بينه وبين ابن ماجة في الفقه والاستنباط فبلا شك الشافعي له قصب السبق في ذلك، بل لو قارنا بين الشافعي وأحمد فإننا نجد أن الإمام الشافعي رحمه الله يقول للإمام أحمد: أنتم أعلم بالحديث منا، فدلونا على الحديث عراقياً كان أو شامياً أو حجازياً حتى نقول به.
والإمام أحمد في الفقه أخذ معظم أصول مذهبه عن الإمام الشافعي، وكان بعض العلماء المتقدمين يقولون: المذاهب ثلاثة فقط، ويجعلون مذهب الإمام أحمد وجهاً من وجوه المذهب الشافعي، وإن كان له منزلة عظيمة بموقفه العظيم في المحنة، بالإضافة إلى فقهه وعلمه، مما جعل أهل العلم يذكرونه في الأئمة الأربعة.
وغيرهم اجتهد في التفسير مثل ابن جرير الطبري وآخر في التجويد والقراءات، أمثال عاصم بن أبي النجود -وإن كان ضعيفاً في الحديث أو حدي