[الصواب في مقولة: كل مجتهد مصيب]
قال ابن قدامة رحمه الله في الكلام على مسألة كل مجتهد مصيب: وزعم الزاعم أن مخالف ملة الإسلام إذا نظر فعجز عن الحق فهو معذور غير آثم.
في الحقيقة أن الجاحظ الذي سنسمع كلام ابن قدامة عليه لا يقول: إن الملل الأخرى حق، بل يقول: إن الذي يخطئ معذور، وعنده أن الذي يخالف ملة الإسلام يكون مخطئاً، ولكنه يقول: طالما نظر ولم يستطع أن يصل يكون معذوراً غير آثم.
وقال عبيد الله بن الحسن العنبري: كل مجتهد مصيب في الأصول والفروع جميعاً, وهذه كلها أقوال باطلة.
يقول ابن قدامة: أما الذي ذهب إليه الجاحظ فباطل يقيناً, وكفر بالله تعالى, ورد عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإنا نعلم قطعاًَ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه, وذمهم على إصرارهم, ونقاتل جميعهم, ونقتل البالغ منهم، ونعلم أن المعاند العارف مما يقل، وإنما الأكثر مقلدة، اعتقدوا دين آبائهم تقليداً، ولم يعرفوا معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه, والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة.
معنى كلام ابن قدامة: أنه لا يلزم أن يكون الكافر معانداً، فيمكن أن يكون الكافر جاهلاً يظن نفسه على الحق, ويظن أن دينه هو الصواب, وسلوك الناس يدل على ذلك, وبالتأكيد هناك من يقتل نفسه لأجل الكفر، بل مستعد للتضحية بكل شيء في سبيل أن يبقى على ملته، وهذا أمر معلوم من أيام النبي عليه الصلاة والسلام, فقد استوهب أحد الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني قريظة لمنة كانت له عليه, فوهب له نفسه وأهله وماله، فقال له: سألتك بالله إلا ألحقتني بالأحبة، فألحقه بالأحبة وقتله، بعد أن قال له: إن رسول الله وهبك لي ووهبتك لنفسك, انطلق حيث شئت، لكنه كان يريد أن يلحق بالأحبة مثل حيي بن أخطب ورءوس الكفر من اليهود.
وكثير جداً من الكفار كانوا يضحون تضحية عظيمة عبر العصور المختلفة؛ لأن أكثرهم مقلدون للكبراء والرؤساء، لذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـ هرقل في الرسالة: (فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) ولم سيكون عليه إثمهم؟ لأنهم سيتبعونه على الكفر، فمعلوم بالضرورة أن المعاند الكافر مما يقل؛ لأنه يعلم أنه على الباطل مثل فرعون وإبليس ورءوس اليهود، لكن أكثرهم يظنون أنفسهم على الحق.
وقد وجد من الناس من يعتقد أن العذر بالجهل معناه: أننا نعذر أي شخص يظن نفسه على الحق ولا يدري وجه الصواب، بينما الحق في العذر بالجهل هو العذر لعدم البلاغ وليس العذر بأي نوع من أنواع الجهل؛ فالكافر الجاهل الذي قد بلغته الحجج ولم يفقهها ولم يتعلمها، أو أعرض عن الدين بالكلية فلم يتعلمه ولم يعمل به -كما يقول الشيخ محمد عبد الوهاب - ولم يدخل في الإسلام، أو بلغته دعوة الحق وأبى أن يدخل فيها، أو كان على شرك ولو ظن أنه يمتثل بالإسلام، وأعرض عن آيات الله بالكلية وظل على شركه الذي هو عليه، فهذا لا شك في كفره ولا يعذر.
فـ ابن قدامة يقول: إن كلام الجاحظ ردة عن الإسلام، وكفر بالله يقيناً.
يقول ابن قدامة في روضة الناظر: والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة، كقوله تعالى: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:٢٧]، الله أخبر أن ظنهم الباطل لم ينزههم من النار، وقال: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:٢٣]، وقال: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:٧٨]، وقال: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة:١٨]، وقال: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف:٣٠] , وقال: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:١٠٤ - ١٠٥].
قال: وفي الجملة ذم المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا ينحصر في الكتاب والسنة.
انتهى من كتاب روضة الناظر.
يعني: أنه لا يلزم أن يكون معانداً، بل قد يكون مجتهداً بحث فيما يظنه الحق، لكن لأجل هواه، وإيثاره تقليد الآباء والأجداد، وعدم مخالفة الناس أو الملة التي أكثر الناس عليها آثر الباطل, وظن نفسه على الحق فهذا لا يعذر.
وقد ذكرنا من قبل أن أدلة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم كأدلة التوحيد سواء بسواء، أدلة كالماء والهواء يجدها كل من طلبها؛ فلا يتصور أن يكون المرء منصفاً باحثاً عن الحق بالفعل ثم لا يصل، وإن لم يصل فبسبب من قلبه ومن إيثار الحياة الدنيا على الآخرة, كما قال تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ} [هود:١٠٩]، لا تظن أنهم يمكن أن يكونوا في مرية منه، أو هم منصفون في البحث عن الحق، وأن هذه هي نتيجة البحث المنصف، ليس هذا متصوراً أبداً، إنما يقع ذلك بسبب الإعراض عن الحق بسبب إيثار الحياة الدنيا، وعدم الإنصاف في البحث عن الحق.