[الخلاف في تحقيق المناط في قضايا تكفير الأعيان]
ومنها الاختلاف في تحقيق المناط في قضايا تكفير الأعيان، بناءً على استيفاء الشروط وانتفاء الموانع.
وشروط التكفير هي: العقل، والبلوغ، وإقامة الحجة، وهي من أهمها.
وموانعه: الجنون، والصغر، والجهل الناشئ عن عدم بلوغ الحجة، والخطأ، والنسيان، والإكراه، والتأويل.
فلما نقول: إن فلاناً قامت عليه الحجة أو استوفيت فيه الشروط، والبعض الآخر يقول: لم تستوف فيه الشروط، فهذا اسمه اختلاف في تحقيق المناط، بمعنى: أننا متفقون على مناط الحكم، فلو قلنا: مناط استحقاق الزكاة الفقر، فنحن متفقون على هذا الحكم؛ لأن ربنا قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:٦٠] فمناط الحكم وجود وصف الفقر، ثم نأتي نختلف في فلان من الناس هل هو فقير أم لا؟ فيقول شخص: أنا أحس أن حاله فقير، وثانٍ يقول: أنا وجدت عنده كذا وكذا وكذا، فهذا ليس فقيراً.
فهذا اسمه اختلاف في تحقيق المناط.
فهم مسلمون فقهياً ولا يوجد خلاف فقهي، لكنهم مختلفون في التطبيق على الواقع، وعلى وصف شخص بأنه فقير أو ليس بفقير.
ومن ضمن هذا الخلاف أن نكون متفقين على تكفير من يحكم بغير ما أنزل الله على جهة الاستحلال وعلى جهة الجحد وعلى جهة إلزام الناس بغير الشريعة.
ولكن يختلف العلماء فيقول أحدهم: فلان هذا عنده عذر، والثاني يقول: ليس عنده عذر وقد أقيمت عليه الحجة، والثالث يقول: لم تقم عليه، وغيره يقول: هذا عنده تأويل، ويقول آخر: علماء السوء ضللوه، ويقول آخر: هو الذي يضلل علماء السوء وهكذا.
فهذا الخلاف من الخلاف السائغ، وهذا الكلام مرده إلى القاضي الذي يطبق الحكم، أو العالم الذي سيقسم المواريث، وسيحكم بفراق الزوجة، وأن الرجل هذا أقيمت عليه الحجة أو لم تقم؛ لأنه سيترتب عليها أحكام، فالقاضي أو العالم هو الذي إليه مرد الأمر.
فهذه المسألة مهمة جداً؛ لأن مبناها على الاختلاف في تحقيق المناط، مع أن الأصل متفق عليه.
مثال آخر: سب الدين كفر وسب الله كفر باتفاق العلماء، لكن وجدنا ولداً يسب الدين، فهذا الولد هل نقول: كفر أم لا؟ تجد من يقول: لا يكفر؛ أنا رأيته صغيراً، وآخر يقول: يكفر؛ لأنه قد بلغ بالفعل، فقد عمل كذا وكذا، أو أن طبيباً كشف عليه ووجد أنه قد أنبت، وآخر يقول: الطبيب هذا ليس كفئاً.
فلو أن قاضياً عرض عليه هذا الموضوع فقد يختبره في تحقيق المناط، وأنه استوفى الشرط الذي هو البلوغ أم لم يستوفه؟ وهل استوفى شرط الإكراه أم لم يستوفه؟ فقد يأتي من يقول: كان مكرهاً؛ فقد رأيت واحداً كان يهدده بمسدس.
والثاني يقول: لا أنا ما رأيت ذلك، ولم يكن مكرهاً.
فهذا خلاف في التطبيق على الواقع، وهذا الخلاف هذا خلاف سائغ، وبالتالي فبعض العلماء يمكن أن تستوفي عنده الشروط وتنتفي الموانع فيحكم بتكفير شخص معين، وآخر لم تستوف الشروط عنده أو يكون هناك بعض الموانع، أو يكون عنده احتمال في بعض الموانع فيتوقف عن التكفير؛ حذراً من تكفير المسلم.
فهذه المسألة لا يجوز أن تكون سبب ضغينة بين المختلفين فيها؛ لأن الخلاف فيها خلاف سائغ في تحقيق المناط، مع أنها قد يكون لها توابع عقدية، فمثلاً: الذي لا يكفِّر، لا يقول عن الذي يكفِّر: هذا من الخوارج، والذي يكفِّر لا يقول عن الذي لا يكفِّر: هذا من المرجئة.