[الخلاف في تحقيق المناط لا يوجب العداوة بين المختلفين]
إن تحقيق المناط في قضايا تكفير الأعيان لا يوجب عداوة فيما بيننا، خاصة في المسائل المهمة كمسألة الحكم بغير ما أنزل الله، أو مسألة تارك الصلاة لأنهما مسألتان من المسائل الكبار، وهكذا مسائل الولاء والبراء أيضاً، وكذلك قضايا الاستغاثة بالقبور، فنحن لا نختلف مع أحد من أهل السنة في أن دعاء غير الله كفر ناقل عن الملة، ولكن نحن نختلف في تكفير عين من قال: مدد يا بدوي.
فهذا اختلاف في تحقيق المناط، وليس في تخريجه، فنحن متفقون على مناط الحكم، وأن دعاء غير الله -كأن يقول: مدد يا سيدي فلان- كفر ناقل عن الملة، واعتقاده في أنه يملك النفع والضر شرك ناقل عن الملة، لكن ننظر هل هذا الرجل قامت عليه الحجة أم لا؟ وهل جهله ناشئ عن عدم البلاغ أم لا؟ لأن الجهل الناشئ عن الإعراض عن الحجة بعد بلوغها لا يعذر به، كما قال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ}[التوبة:٦] يعني: أن الكفرة لا يعلمون أنهم جهلة، وربنا قال عن فرعون:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}[الأنعام:١١١] فهذا جهل العاقبة وجهل الإعراض عن أصل الدين، فهؤلاء الكفار لا يعلمون بسبب جهل الإعراض، أما فرعون فجهله جهل عاقبة.
أما المسلم الذي ثبت إسلامه ثم لم يبلغه تفصيل معين في عقيدة أو عمل سواء كان مقصراً في طلب العلم أم غير مقصر فإنه لا يكفر، وإن كان يأثم بالتقصير في طلب العلم وإذا كانت عنده إمكانية لطلب العلم ولم يطلبه، فهذا إن بلغه الحق فأعرض ينظر في المخالفة التي ارتكبها، أهي من الأمور المكفرة؛ كارتكاب الشرك الأكبر، أم لا تكفره، كالذنوب والمعاصي؟ فمثلاً: أحدهم قامت عليه الحجة في أن مصافحة المرأة الأجنبية حرام، ووجدته بعد أن بلغته الحجة صافح امرأة أجنبية، فنقول: إنه بعد أن صافحها عمل معصية.
وآخر قامت عليه الحجة في أن العادة السرية محرمة، وعرف هذا ثم عملها فنقول: هذا عاصٍ.
وآخر قامت عليه الحجة في أن قوله:(مدد يا بدوي) شرك، ثم قال: مدد يا بدوي، فهو كافر، والعياذ بالله! وآخر قامت عليه الحجة في أن الحكم بما أنزل الله فرض وأن الحكم بغير ما أنزل الله من الكفر، ثم حكم بغير ما أنزل الله، فهذا يكفر طالما أنه استوفى شروط التكفير أينما كانت.
فإن كانت المعصية من المكفرات فيحكم بكفره؛ لبلوغ الحجة وزوال الشبهة، ولا اعتبار بإعراضه، ولا التأويل الباطل الذي يخالف المعلوم من الدين بالضرورة، ولكن يعلم بطلانه أهل العلم، كأن يأتي رجل فيؤول الصلوات الخمس بأنها ذكر أسماء أهل البيت.
ويقول: الصلوات الخمس أن يقول: علي وفاطمة وحسن وحسين ويقول: إن الزنا هو أن يبلغ الإنسان سر الطائفة إلى غير الطائفة؛ لأنه من إدخال الشيء في شيء آخر، أما أنه يعاشر امرأة أجنبية ولو أدخل الفرج في الفرج فهذا ليس بحرام، فمثل هذا كافر ولا أقول: إنه تقام عليه الحجة؛ لأن هذا معلوم من الدين بالضرورة، وهذا تأويل، لكنه تأويل لا يعتد به؛ لمخالفته ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
أما التأويل الباطل فالعلماء فقط هم الذين يعرفونه، ولا بد من إقامة الحجة؛ لأنه في الحقيقة نوع من الجهل.