[اختلاف التضاد والموقف منه]
النوع الثاني من الاختلاف: اختلاف التضاد, وهو أن يكون كل قول من أقوال المختلفين يضاد الآخر ويحكم بخطئه أو بطلانه، فالشيء الواحد تجده يقول بحرمته وبحله، مع العلم أن بعض المتكلمين في مسائل الخلاف من المتقدمين والمتأخرين يقول عن مسائل الاجتهاد المختلف فيها: كل مجتهد مصيب، ويعني بذلك: أن كل أنواع الاختلاف هي من النوع الأول طالما أن ذلك في الفروع، فلذلك يجعله من النوع الأول من الاختلاف وهو اختلاف التنوع، وقد نصر ذلك الجماعات الإصلاحية, مثل صاحب كتاب (الإصلاح)، فهو يميل إلى هذا القول, وكذا الإمام الدهلوي في كتابه (أسباب الاختلاف) يميل إلى هذا القول.
فهذا النوع من الخلاف موجود، ومعناه: أن كل قول يخالف القول الآخر يضاده ويحكم بخطئه أو بطلانه، وهذا يشمل المسائل سواء كانت اعتقادية أو عملية، ولنضرب مثلاً بمسألة اعتقادية فنقول: الإمام الشافعي يقول بوجوب القراءة خلف الإمام، والإمام أبو حنيفة يرى حرمة القراءة خلف الإمام، والإمام أحمد يرى وجوب القراءة خلف الإمام في السرية وعدم مشروعيتها في الجهرية، فهذه ثلاثة أقوال وكل قول منها يخالف ويضاد القول الآخر، وقد يتفق الشافعي وأحمد في جزئية وهي: وجوب القراءة في السرية, ويتفق في عدم القراءة في الجهرية أحمد وأبو حنيفة، لكن الحقيقة أن كل قول منها يخالف الآخر.
لكن لو جاء واحد وقال: كل مجتهد مصيب، والأقوال الثلاثة صحيحة، فهذا يكون قد أحدث قولاً رابعاً، حيث يقول: لك أن تختار ما بين هذا أو هذا أو هذا، كالواجب المخير، مثل قصة الصلاة في الطريق أو في بني قريظة بعد الوقت، والحقيقة أن هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الذين صلوا في الطريق هم الذين أصابوا، والقول الثاني: أن الذين صلوا في بني قريظة هم الذين أصابوا, والقول الثالث: أن الفريقين أصابوا، وبذا يكون كل مجتهد مصيب، وهذا ينفي اختلاف التضاد هنا خاصة, ويجعل جميع الاختلافات من اختلاف التنوع؛ لأن كلا الأمرين صحيح، هذا مراد من يقول: كل مجتهد مصيب.
وهذه العبارة نقلت عن بعض السلف, لكن ليس معناها ما فهمه هؤلاء المتأخرون من أن هذا من الواجب المخير, أو أن كله مفيد، وليس المعنى إصابة الحق، أو يقول هذا القائل: المطلوب الاجتهاد، وما فعله الإنسان بعد ذلك فقد أصاب الحق؛ لأن الحق هو ما يؤدي إليه الاجتهاد.
هذا الكلام غير صحيح؛ لأن مقصد من تقدم من السلف بقوله: كل مجتهد مصيب: أنه قد أدى ما عليه، ولا يلزم من ذلك ألا يكون هناك حق يطلب.
نقول: إن إثبات هذا النوع من اختلاف التضاد وهو: أن يكون الشيء الواحد هناك من يقول بحرمته وبحله معاً من جهة الحكم لا من جهة الفتوى لا ينبغي، أي: أننا قد نقول: إن الميتة محرمة، ولكنها مباحة للمضطر.
كفتوى لشخص وقع في الاضطرار، لكن الحكم العام أن الميتة محرمة.
كذلك الحكم بأن هذا الفعل حرام يكون في قليل النبيذ المسكر كثيره: فشرب نبيذ غير عصير العنب كثيره يسكر، وقليله لا يسكر، فالمخالف يقول: قليله حرام.
ليس من جهة الفتوى, كإنسان في حالة ضرورة ومخمصة لم يجد إلا ذلك النبيذ لسد رمقه، فهو حلال له في تلك الحالة كفتوى, وأما الحكم العام فهو حرمته عند من يقول ذلك عند عدم الضرورة.
المقصود: أن هذا الاختلاف ليس اختلافاً في فتوى المسائل بل في الأحكام العامة، ووقوع هذا النوع من الاختلاف في الملل والعقائد والأديان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام؛ لأن هذا قطعاً واقع؛ فهناك اختلاف تضاد في الملل والأديان والعقائد، وهو من المجمع عليه بين المسلمين, ولم يخالف في ذلك إلا الزنادقة المنافقون -وللأسف ما أكثرهم في زماننا- ممن ينشرون بين الناس مفهوم مساواة الملل، وأن كل الأديان حق, وأن أهلها إن تمسكوا بما هم عليه فهم ناجون، فاليهود عليهم التمسك باليهودية, والنصارى كذلك, والمسلمون كذلك، بل صار بعضهم يقول: إن من يسأل عن حكم اليهود والنصارى في الدنيا والآخرة هل هم كفار؟ وهل هم مخلدون في النار؟ فهو يهدد الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي, ولا يحترم الأديان، فهو عندهم يستحق أقسى أنواع العقوبات والعياذ بالله من الخذلان.
ولا خلاف بين العلماء أن من لم يكفر اليهود والنصارى, بل حتى لو شك في كفرهم أنه كافر مرتد مكذب بالقرآن, قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:١٩]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:٨٥]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار)، متفق عليه.
هناك مقالة كتبها أحد الكتاب بعد سؤال وجه له، وهذا الكاتب عنده عاطفة إسلامية في جملة كتاباته, لكن انظر إلى الجهل العظيم والفظيع الذي عنده، وما كنت أظن أن مثله يكتب مثل هذا، وهو الأستاذ فهمي هويدي كتب مرة يقول: هذه الأسئلة ما زالت تطرح للأسف الشديد، فالذي يقول: هل هم كفار أم لا؟ وهل هم مخلدون في النار أم لا؟ كل هذه من علامات التطرف والتشدد في الفكر مرجعه إلى انتشار كتب سيد قطب في فترة من الفترات، وينقل عن بعضهم ويصوب هذا: أن المؤمنين في اصطلاح القرآن ليسوا أتباع دين خاص، ولكنهم المؤمنون بالإله الواحد، وأن كل مقر بوجود إله واحد مؤمن عند الله سبحانه وتعالى, يعني: أن كلمة ((َالَّذِينَ آمَنُوا)) تشمل اليهود والنصارى، ولا يلزم أن يكونوا على ملة الإسلام.
وكم كتبت مقالات من هذا القبيل من أستاذة يدرسون للناس الدين, فعميد إحدى كليات العلوم الشرعية كتب في بعض الجرائد يقول: إن الخلاف مع النصارى ليس خلافاً في التوحيد, ولكنه خلاف في النبوة, وهذا خلاف بسيط -يعني: تكذيب النبي عليه الصلاة والسلام خلاف بسيط- لا يخرجهم من كونهم موحدين، ولا يخرجهم عن الإيمان، مع التناقض قطعاً.
أي: أن الذي يقول: إن الله هو المسيح بن مريم ليس مخالفاً في التوحيد، والذي يقول: إن الله ثالث ثلاثة ليس مخالفاً في التوحيد، والذي يعبد الأحبار والرهبان ليس مخالفاً في التوحيد.
أما زعمه أن تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ليس خلافاً في التوحيد؛ لأنه خلاف يسير.
فلا.
بل هو كفر يخرج من الملة بالتأكيد؛ لأنه لم يشهد أن محمداً رسول الله.
كما أن من يصوب عبادة غير الله وهو يشهد أن لا إله إلا الله فهذه قضية خطيرة للغاية، وما كنا نظن أننا يمكن أن نختلف بالذات على هذه المسألة المعلومة من الدين بالضرورة لولا أن من ينادي بحرية الاختلاف وحرية الفكر يدخل الملل الكفرية في ذلك، ويقول: إن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، حتى أثرت هذه الدعوة على كثير من أبناء المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.