[العقبات في طريق الدعوة]
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: كثيرة هي العقبات في طريق الدعوة إلى الله عز وجل، حكمة من الله سبحانه وتعالى بالغة, وسنة ماضية أن يبتلي أهل الإيمان بأنواع الابتلاءات والمحن التي يميز الله عز وجل بها بين الخبيث والطيب، فيما يرى الناس شهادة قد علمه سبحانه وتعالى أزلاً وغيباً, لكنه سبحانه وتعالى قدر وجود الابتلاءات والمحن والعقبات لكي يظهر للناس صفات أهل الحق وأهل الباطل, ولتستبين سبيل المجرمين، وليهدي الله عز وجل من شاء إلى صراط مستقيم، وإلى ما اختلف فيه من الحق بإذنه.
هذه العقبات منها عقبات من خارج الدعوة، ومن خارج الدعاة والملتزمين المطيعين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، يضعها المنافقون والكفار وأعداء الدين في طريق الطاعة والالتزام، وهذه العقبات رغم كثرتها وخطرها إلا أنها ليست بعقبات في الحقيقة؛ ذلك أن الله تكفل بها، كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:١٢٠]، تكفل الله بهم مع الصبر والتقوى، والخطورة الحقيقية تكمن في العقبات الداخلية التي تنبع من قلوب وأعمال وأقوال الملتزمين أنفسهم، وما يقع بينهم من اختلاف.
ولا شك أن الاختلافات التي وقعت بين الاتجاهات الإسلامية المختلفة في الصحوة الإسلامية -نسأل الله عز وجل أن يبارك فيها- كانت من أعظم أسباب انصراف الكثير من عامة المسلمين عن الالتزام جملة، ومن أعظم ما يستغله أعداء الإسلام لكي يصرفوا الناس عن الدين بجملته بزعم أن أهله مختلفون متفقون، ولا يحب بعضهم بعضاً، ويكادون يقتتلون بل قد اقتتلوا في مواضع مختلفة من العالم.
كل هذا مما يُجعل -كما يقولون- شماعة يعلق الكثير من الناس عدم التزامه عليها, فيقول: طالما أن هؤلاء الملتزمين مختلفون متنازعون متباغضون فدعونا من الكلام في الالتزام حتى يتفقوا.
وهذا خطر عظيم بلا شك, ولا يكون عذراً عند الله سبحانه وتعالى؛ فإن وجود طعام خبيث في السوق لا يعني أن يصوم الناس عن الطعام بالكلية حتى يهلكوا، وهذا الذي يترك الالتزام بزعم أن الاختلافات قائمة بين الاتجاهات الإسلامية والمتناقضات موجودة هو كالذي يترك الطعام جملة ويقول: طالما وجد طعام فاسد فلن آكل شيئاً.
وأيضاً أثر هذا الاختلاف سلباً على الكثيرين من أبناء الصحوة أنفسهم بأن صارت القضية الأولى لديهم هي حرب المخالفين، دون نظر إلى ما يسع فيه الخلاف مما وسع السلف وإلى ما لم يسع، وكذلك لم يفرقوا بين النوع والشخص المعين, فنشروا الحروب العنيفة، وزادت نظرة الآخرين للإسلاميين حدة، واشتعلت ثوراتهم ومجادلاتهم بعبارات نارية وقذائف ملتهبة على المخالفين، فكثير من الناس من أجل ذلك رأى أن يهجر العمل الجماعي جملة, ويقول: إن هذه الاختلافات عصبية جاهلية؛ فليكن كل منا وحده بعيداً عن الآخرين.
وقد تأول البعض حديث حذيفة رضي الله عنه الذي فيه: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير والشر, وقال له: (إنا كنا في جاهلية وشر، فأتانا الله بهذا الخير, فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قال: فقلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر، قلت: هل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: فما تأمرني؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة فتموت وأنت عاضٌّ عليها)، فتأول بعضهم هذا الحديث وحمله على الجماعات الإسلامية المختلفة، فقال: هذه هي الفرق التي يجب أن نفارقها، وغفل عن أن الحديث يشير إلى الدعاة على أبواب جهنم، كأهل البدع والمنافقين كالعلمانيين والقوميين والحزبيين وأمثالهم ممن يوالون أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين, ويسعى إلى إبعاد الناس عن الدين, وكالفرق الضالة المنحرفة من القديم كالرافضة وغلاة الصوفية من عباد القبور وغيرهم، فظن هذا المسكين أن المقصود باعتزال تلك الفرق: أنها كل من اجتمع على طاعة الله عز وجل، فسد على نفسه باباً من أعظم أبواب الخير, وظن أن التعاون على البر والتقوى ممنوع منه في ظنه، وإن لم يصرح في كلامه أنه لا يجوز التعاون على البر والتقوى.
والحقيقة أن أمراض النفوس من وراء ذلك كثيرة, كأنفة الإنسان من أن يكون خاضعاً بدرجة ما, أو يكون ذليلاً على المؤمنين حتى يتحقق التعاون على البر والتقوى، فهذا أمر منبعه من عدم اكتمال تهذيب النفس، وقبولها للحق ولو كان ممن لا تميل إليه النفس.
المقصود: أن هذا أيضاً صار من أعظم أسباب تعطيل العمل الإسلامي جملة؛ لأن كثيراً من الناس ظن أن الحديث مقصوده هذه الاتجاهات الإسلامية، مع أن الخير الذي فيها بلا نزاع أضعاف أضعاف الشر الذي وقع منها، فكم من تارك للصلاة والصيام والزكاة, بل وتارك لشهادة التوحيد في الحقيقة أو لمعناها وتطبيقها قد ردوه إلى الإسلام رداً جميلاً، وكم من مفرط في أصول الإيمان مضيع لها، بل ربما جاحد منكر لها قد أعادوه إلى حظيرة الإيمان، وكم من عبادات ومعاملات والتزام بشرع الله قد حدث بسبب الخير الذي حدث بالدعوة إلى الله عز وجل على دخن في كثير منها, وربما زاد دخن بعضها جداً حتى صار خللاً كبيراً، لكنه في الجملة طالما لم يكن مؤصلاً لبدعة, ولم يكن متجهاً إلى منحى غير طريق أهل السنة والجماعة فإن خيره أكثر من شره، وعلى الأقل يجب أن يقبل خيره ويدفع شره, ولا يمنعنا علمنا بأن عنده دخن وشر من قبول الخير الذي أتى به طالما كان في دائرة الإسلام، بل علينا عند معاملة أهل البدع الضالين أن نعرف لهم أنهم ما زالوا يشهدون أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله, ما لم ينقضوها، فإذا كان كذلك فالأولى أن يكون هذا موقفنا من المتأولين والجاهلين الذين ما دروا أنهم ناقضوا شيئاً من قواعد الدين.