للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ضوابط العذر بالجهل في المسائل الاعتقادية والعلمية]

إن ما لم ينتشر علمه بين عموم المسلمين في مكان ما ولو كان من هذه المسائل، فلا يكفر من يجهله حتى تقام عليه الحجة التي يكفر المخالف فيها، فيفرق في هذا النوع من المسائل بين كفر النوع وكفر العين، بخلاف ما انتشر علمه فلا فرق فيه بل يكفر نوعاً وعيناً، ومن هنا يتبين لك أن تكفير الغلاة من أهل البدع كغلاة الروافض والجهمية والفلاسفة وغيرهم مما ذكرنا هو في العموم بلا فرق بين النوع والعين؛ لأن العلم منتشر.

وما ذكر من قبل في تكفير الطوائف نوعاً وعيناً هو باستقراء الواقع الذي نشاهده في زماننا وواقعنا، وهو كذلك في الأغلب الأعم عبر العصور والبلاد المختلفة إلا أن ذلك لا يعني أنه إن وجد من يحتمل جهله في شيء منها ببعض الأخطاء فلا بد من تكفيره بعينه -لا يعني هذا- بل ربما وجد في البعض من هذه المسائل اختلاف في كثير من البلاد، مثل مسألة عدم كفر اليهود والنصارى؛ فإن الشبه تقوى لدى كثيرين من جراء ما يضلل به المجرمون، وما يموه به مشائخ الضلال أتباعهم من المحبة والمودة والمساواة بين هذه الملل.

ولكن ولله الحمد لا زال كثير من المسلمين لا زال عندهم مفاصلة في ذلك، فهم يعتقدون بلا شك أن الإسلام حق وما سواه باطل حتى الفساق منهم ولو كان حتى لا يظهره إلا أنه يكره الكفار من اليهود والنصارى ويكفرهم، ولكن الشبهة وردت من الفئة التي أتت بعد الثورة التي تبنت بعض مبادئ العلمانية، وعلى أي حال فإقامة الحجة في مثل هذه المسألة بتلاوة الآيات القاطعة في كفرهم، كقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:٧٣]، وقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:١٧]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:١٥٠ - ١٥١].

فمن يقول لك صراحة: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، فهذا إنكار منه لصريح القرآن.

أما في حق غلاة الصوفية فإننا نقصد بتكفير من صرح منهم بترك الأداء، وصرف العبادة للأولياء، كمن يقول: أنا ماذا أعبد؟ والعياذ بالله.

أو كأصحاب الحلول والاتحاد، كمن قال: إن الله حل في فلان، ومن قال: أنا الله، أو كالقائل: أنا الله أمامك.

فهذا معتقد لمبدأ الحلولية فلا شك في كفره حينئذ عيناً.

أما من يصرف العبادة حقيقة دون أن يقر بذلك لفظاً، كمن سألته: هل تعبد البدوي يقول لك: لا أنا أعبد الله دون أن يقر بذلك لفظاً، كمن يسأل غير الله المدد والشفاء، ونحو ذلك، فإذا أنكر أنه يعبده، وأنه عنده وسيلة فقط، فهذا لا نشك في بلادنا إلى الحاجة إلى إقامة الحجة فيه على المخالف قبل تكفيره بعينه، وإن كان لا خلاف عند أهل الحق في كفر هذا النوع في هذه المسائل، أما في بلاد المملكة العربية السعودية فإنه يظهر جلياً أن الحجة قد قامت بهذا على كل أحد؛ إذ يعلَم الناس جميعاً صغيرهم وكبيرهم مسائل التوحيد، فلو قال ذلك من نشأ في ذلك المجتمع فإنه يكفر بعينه، والله اعلم.

كلام الإمام الطهطاوي بعد أن ذكر أن مانعي الزكاة في عهد أبي بكر رضي الله عنه هم أهل بغي على الحقيقة، قال: فإن قيل: كيف تأولت أمر هذه الطائفة التي منعت الزكاة وجعلتهم أهل بغي؟ وهل إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرض الزكاة وامتنعوا عن أدائها يكون حكمهم كحكم أولئك؟ قلنا: لا، فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافراً بإجماع المسلمين، والفرق بين هؤلاء وأولئك: أنهم عذروا بأمور لا يحدث مثلها في هذا الزمان، منها: قرب العهد بزمان الشريعة التي كان يقع فيها تبديل الأحكام والنسخ.

ومنها: أن القوم كانوا جهالاً في أمور الدين، وكان عهدهم بالإسلام قريباً، فدخلتهم الشبهة لضعفهم، فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عند الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئاً مما أجمعت عليه الأمة من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً، كصلاة القصر وصوم شهر رمضان، وتحريم الزنا والخمر، ونكاح ذوات المحارم ومثلها من الأحكام، إلا أن يكون رجلاً حديث عهد بالإسلام، ولا يعرف حدوده؛ فإنه إذا أنكر شيئاً منه جهلاً به لم يكفر، وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليه.

أما ما كان الإجماع فيه معلوماً من طريق علم الخاصة، كتحريم زواج المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمداً لا يرث، وأن للجدة السدس، وما أشبه ذلك من الأحكام؛ فإن من أنكرها لا يكفر، بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة.

هذا كلام الطهطاوي نقلاً عن مراتب الإجماع.

قال ابن قدامة: لا خلاف بين أهل العلم في كفر من تركها - يعني الصلاة- جاحداً لوجوبها إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك، فإن كان ممن لا يعرف الوضوء كحديث الإسلام، والناشئ في غير دار الإسلام، أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم لم يحكم بكفره، ويعرَّف ذلك، وتذكر له أدلة وجوبها؛ فإن جحدها بعد ذلك كفر.

وأما إذا كان الجاحد ناشئاً في الأمصار بين أهل العلم؛ فإنه يكفر بمجرد جحدها.

انتهى من المغني.

قال ابن حزم في الفصل: وأما من قال: إن الله عز وجل هو فلان لإنسان بعينه، أو إن الله تعالى يحل في جسم خلقه، أو إن بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبياً غير عيسى بن مريم؛ فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره؛ لصحة قيام الحجة بكل هذا على كل أحد.

ولو أمكن أن يوجد أحد يدين بهذا لم يبلغه قط خلافه لما وجب تكفيره حتى تقوم الحجة عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>