[من محاذير اختلاف التنوع: الجهل بمبدأ التوازن في بناء الشخصية]
إن الجهل والمعاصي من أعظم أسباب الهزيمة، وهذا المحذور للأسف قد وقع لأكثر الاتجاهات المعاصرة ففشلت في تحقيق التوازن في بناء الأفراد، فشغلت بواجب عن واجبات عينية وكفائية تقدر عليها، وظهر الخلل في الشخصية التي تتكون وتتربى في هذه الاتجاهات، فمن الخطير أن يحصل اهتمام بالغ بقضية على حساب قضايا، بل أصبح هناك في بعض الأحيان اهتمام بالغ بمسائل الفروع على حساب الأصول، فربما تجد من يكتب بحثاً مقداره مائتي صفحة في حكم السترة، وهذا وإن كان من الأمور المشروعة الموجودة في كتب الفقه، ولكن ليس بهذا الحجم الضخم، ففي المغني الذي يعد أكبر كتب الفقه وأعظمها قدراً تكلم فيه مؤلفه في صفحتين فقط، وعملي لبحث بهذه الطريقة سيأخذ مني وقتاً وجهداً كبيراً، وربما كان من الأفضل اختصاره من كتاب منار السبيل من أجل أن يحصل له توازن في الاهتمام بالقضايا، ويكون هناك بعض إلمام بقضايا العقيدة مثلاً، فيقرأ معارج القبول، حتى لا يظهر عندنا أناس يبرزون في علوم معينة، وتجدهم في نفس الوقت يقصرون في بديهيات أخرى مثلاً في مسائل الإيمان والاعتقاد فيها ويكون عندهم خلل كبير جداً فيها، كالاستشهاد بكلام أهل البدع، وهذا لا يحصل إلا عندما لا يكون هناك تكامل ولا توازن، ومثل هذا قد يكون بروزه في هذا النوع من العلم سبباً كافياً لأن يقدم ويستفتى، ومن الناس من يبرز في الوعظ والإرشاد فيكون له تأثير كبير على الناس، وغالب الناس لا يفرقون أصلاً بين المفتي وغيره فيصبح مثل هذا مفتياً لقطاع كبير جداً من الناس، فهذا خلل كبير، ولابد أن يحصل نوع توازن في مثل هذا، فإذا كان الإنسان يحسن الوعظ فلا يظن في نفسه أنه قد أصبح محسناً للفتوى، ولا بد أن يحصل ضبط لهذه المسائل.
فالحاصل أن هذا المحذور واقع في الاتجاهات الإسلامية، فبدل أن يحصل التكامل المطلوب يحصل عوضاً عنه أن الواحد ينشغل بجانب ويضيع بقية الجوانب، ولذلك فإن المطلوب أن يهتم كل واحد بجميع جوانبه الشخصية: من الناحية العلمية والعملية، فلا يتقن المسائل العلمية وهو عاق لوالديه، وقاطع للرحم، وسيئ الخلق مع الناس، وهو في الأموال أسوأ، فلا بد أن يستكمل المرء جميع الجوانب الشخصية، فيحافظ على عبادته الشخصية -على الأقل الواجبات- ولا يسهر طول الليل مع طلاب العلم ثم لا يصلي الفجر؛ لأن هذا سيؤدي إلى أنه هو نفسه سيخسر ويضيع.
وربما قيل لشخص: لا بد أن تتواجد كممثل للشيخ الإسلامي في المكان الفلاني، وأصبح اسمه يملأ الميادين والشوارع، وهو عضو مبرز في مكان معين، ومن ثم يتفوه بكلام قد يناقض أصل الاعتقاد، كأن يتكلم في الولاء والبراء بغير علم، وأذكر مرة أن عضواً في مجلس شعب كان يريد أن يهاجم سياسة التقارب مع اليهود، فقالوا له: لابد أن تقف موقفاً شديداً في ذلك، فجاء إلى قوله تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى}[البقرة:١٢٠]، فوجد أن الآية فيها ذكر النصارى، وهو يعلم أنه ليس له أن يتكلم في النصارى فبتر الآية، ثم قال:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ}[المائدة:٨٢] فاقتص الآية الأولى لأنها لن تكون مناسبة للمقام -ولا حول ولا قوة إلا بالله- من أجل أن فيها ذكر النصارى.
فالأمر فيه خلل كبير جداً، فلا بد من أجل تحقيق التكامل المنشود في هذا النوع من الاختلاف أن نحدد بوضوح القدر الأدنى علماً وعملاً للفرد والجماعة في المكان والزمان، وهو فروض الأعيان وفروض الكفاية التي تعينت، كالأمر بمعروف والنهي عن منكر متعين في كثير من الأحيان، فلا يسع أحداً تركها طالما قدر عليها.
أما فروض الكفاية التي وجد من يقوم بها من الاتجاهات والجماعات الإسلامية المتعددة فالتكامل والتعاون فيها مطلوب رغم الاختلاف المنهجي الذي غالبه من اختلاف التضاد، يعني: رغم أن هناك اختلافاً منهجياً متضاداً وبعضه غير سائغ، لكن أن نتعاون على الخير فيما هو خير واجب شرعي، فلا بد لنا أن نشد من أزر المجاهدين وإن كان عندهم بعض البدع والمنكرات طالما بقوا في دائرة الإسلام.
ولابد لنا من التعاون والتعاضد مع من يكفلون الأيتام والأرامل والمحتاجين، وإن رأينا تقصيرهم في طلب العلم فلا يحملنا ذلك على أن نترك الواجب الذي هم يقومون به، ولا بد من تأييد السواد الإسلامي في نواحي الحياة المختلفة طالما كان منضبطاً بالشرع، ولو كان لنا شيء من الملاحظات الأخرى على المنهج المتواجد فيه.