للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الاختلاف في مسألة التوسل بالصالحين]

ومسألة التوسل هذه مسألة مهمة، وهناك خلاف في بعض أنواعها، وللأستاذ حسن البنا في هذا الموضوع كلام وقعت به أزمة عبر تاريخ الصحوة الإسلامية المعاصرة، فقضية التوسل من المشاكل التي أدت إلى افتراق شديد جداً بين الاتجاهات السلفية وجماعة الإخوان، فالشيخ حسن البنا يقول: إذا اقترن الدعاء بالتوسل بأحد من الخلق فهو خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة، وهذا مذكور في الأصول العشرين، وهذا الكلام كان سبباً لتساهل الإخوان مع الصوفية، فنقول: هذه عبارة يمكن أن يكون لها وجه صحيح، وإطلاقها هو الخطأ؛ لأن بعض أنواع التوسل مختلف فيه فعلاً، كالتوسل بالحق والجاه والذات، مع أننا نرجح أنه ممنوع، ولكن هذا النوع من الخلاف خلاف فرعي.

أما التوسل إلى الله عز وجل بأن يصرف الدعاء إلى غير الله ويسميه توسلاً فهذا شرك -والعياذ بالله- كأن يقول للميت: ارحمني وانصرني يا سيدي فلان اغفر لي انتقم من عدوي أغثني المدد يا سيدي فلان، وإذا سئل: كيف تدعو غير الله؟ فيقول: هذا توسل، فنقول: هذا توسل شركي، فالمشركون يعبدون غير الله ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣]، وقال الله عنهم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:١٨]، والتوسل هو: طلب التقرب إلى الله.

هناك نوع آخر من مسائل العقيدة من جهة أنه شرك أصغر مجمع على بدعيته بين السلف وهو أن يقول للميت: ادع الله لي اشفع لي عند الله، فهو لم يقل له: ارحمني واغفر لي وأعطني وارزقني، ولكن قال له: ادع الله أن يرزقني ادع الله أن يسقيني اشفع لي عند الله أن يشفي ابني ونحو ذلك فهذا متفق على منعه بين السلف، ولكنه من باب الشرك الأصغر الذي هو من الذرائع إلى الشرك الأكبر، وقد قال بعض المشايخ: هذا النوع شرك أكبر، وهذا خطأ بين من قائله، وخلاف ما بينه أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره، فالشرك هو: صرف العبادة لغير الله، وهذا لم يدع غير الله، وإنما طلب من الميت أن يدعو له، وهناك فرق بين أن يدعو الميت ويطلب منه قضاء الحاجة، وبين أن يطلب منه أن يدعو له عند الله، وفي هذا الأمر خلل كبير جداً عند كثير من السلفيين، فهم يتصورون أن دعاء غير الله يساوي طلب الدعاء من غير الله، فيقولون: هذه شفاعة، والمشركون كانوا يقولون: ((هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) فيرون أن كل من يقول: اشفع لي يا رسول الله اشفع لي يا سيدي فلان، أنه أشرك بالله، وأنه مثل المشركين.

فنقول: هذا مسلم ما عبد غير الله، وما دعاه وما سجد له وما ركع له وما ذبح له ونحو ذلك، وإنما خاطبه بما لم يرد، كأن يقول له: أيعجبك حالنا يا رسول الله؟ أترى ما نحن فيه يا رسول الله؟ استسق لأمتك أو ادع الله أن يفرج هذا الكرب، وهذا خطاب بما لا يجوز، مثل قول بعض الشعراء: يا رسول الله ما يرضيك عنا؟ أو نحو ذلك، ومثل أن يقول: يا رسول الله! أخبرنا عن هذا الحديث أصحيح هو أم ضعيف؟ أقلته أم لم تقله؟ أنقول: هذا أشرك بالله من أجل أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبره بذلك؟ لا، إنما نقول: إنه خاطبه بما لم يرد، ومعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يرد عليه، ونقول: هذا بدعة وضلالة، وهو خلاف غير سائغ عندنا، لكن لا يكون مشركاً شركاً أكبر بل هو ذريعة إلى الشرك؛ ولذلك قد يسمى شركاً أصغر؛ لأنه ذريعة إلى الشرك الأكبر، لكنه ليس بالشرك الأكبر الناقل عن الملة؛ لأن الشرك هو: صرف العبادة لغير الله، وهذا لم يعبد غير الله.

وقد ورد هذا النوع عن بعض الفقهاء المتأخرين، لكن لأجل إجماع السلف على منعه وعدم ورود دليل على جوازه، قلنا: إنه من ضمن الخلاف غير السائغ، وإن كنا لا نكفر قائله، أما طلب قضاء الحاجات من غير الله فهذا كفر ناقل عن الملة، وإن كنا لا نكفر المعين حتى تقام عليه الحجة.

ومن الأمور الخطيرة وهي ذريعة إلى الشرك، تعليق صورة الوالد ونحوه من أجل أن يقول له: انظر إلى إخوتك أو انظر إلى أولادك كيف فعلوا بي ونحو ذلك، وهو يعرف أنه لن يسمعه، لكن يشتكي له ونحو ذلك، ومثل هذا الكلام محرم بلا شك، وخطر عظيم وذريعة للشرك، فالأصل عدم سماع الأموات إلا ما ورد فيه الدليل.

أما السلام على الموتى عند زيارة القبور وقول: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين) الحديث، وكذلك خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لأهل القليب؛ لأن الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تخاطب أجساداً لا أرواح فيها؟! فقال عليه الصلاة والسلام: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) ومن ذلك تبشير الكفار الموتى بالنار كلما مررنا على قبورهم، فهذا مستثنى من الدليل على عدم سماع الأموات.

وعبارة الأستاذ حسن البنا في أن التوسل بالحق والجاه خلاف فرعي عبارة فضفاضة جداً تشمل نوعي الشرك الأكبر والأصغر والمختلف فيه؛ ولذلك استغلها الصوفية في الدفاع عن قولهم: مدد يا سيدي فلان، واغفر لي يا سيدي فلان، مع أن هذا شرك أكبر مخرج من الإسلام.

ويحتجون بأن الصحابي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أسألك مرافقتك في الجنة)، وهناك فرق عظيم، فالرسول ليس هو الذي يعطيه الجنة بل المعنى: أسألك عملاً يؤدي إلى مرافقتك في الجنة، وهم يقولون: نحن نقول للشيخ الميت: نسألك الجنة ونعوذ بك من النار على أن تشفع لنا عند ربنا، وهذا في الحقيقة عبادة فعلاً وإن كان على سبيل الشفاعة، فهو شرك أكبر والعياذ بالله؛ لأنه دعاء لغير الله، والله عز وجل يقول: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:٥]، وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:١٧]، إذاً ابتغاء الرزق من عند غير الله من الشرك.

إذاً: من يتوسل ويقول: أسألك يا رب بحق جاه فلان، أو أسألك بفلان أو أسألك بذات فلان أن تغفر لي، فهذا ليس بشرك؛ لأنه ما سأل غير الله، بل سأل ربنا، ولكن هذا لا يجوز؛ لأنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة، والأصل في العبادات التوقيف، وكذا لم يرد عن السلف مع استحضارهم له، وكل أمر تركه الصحابة والسلف مع وجود المقتضي له وانتفاء الموانع يدل على بدعيته، هذا هو الراجح عندنا.

وقد ورد بأسانيد فيها مقال أن بعض الصحابة أفتى بعض الناس بأن يستعمل هذا النوع من التوسل، وورد عن بعض الأئمة القول به، ولكن نحن نرجح عدم ثبوته عن الصحابة، ومن أجل هذا نرجح القول ببدعيته، ولكن هذا يدل على أنه خلاف سائغ.

وهذه المسائل لا تدخل في مسائل الإنكار، ولا تدخل في مسائل التبديع للمعين، وهذا الكلام ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه القاعدة الذهبية في التوسل والوسيلة، وذكر أيضاً أن الإمام المروزي -وهو من أصحاب الإمام أحمد - نقل عن الإمام أحمد دعاءً فيه توسل بالنبي عليه الصلاة والسلام، فـ شيخ الإسلام يقول: هذه الرواية مخرجة على الرواية الضعيفة عن الإمام أحمد في جواز الحلف بالنبي عليه الصلاة والسلام، والإمام أحمد روي عنه روايتان في هذا الباب.

ونحن نجزم بأن الخلاف غير سائغ في جواز الحلف بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ لثبوت النص: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، حتى ولو كان الإمام أحمد جوز ذلك، والراجح عند شيخ الإسلام ابن تيمية أن الإمام أحمد يمنع من الحلف بالنبي عليه الصلاة والسلام، لكن هو يقول: في المذهب روايتان في جوازه ومنعه.

وبعضهم يستدلون على جواز التوسل بزيادة ضعيفة وردت في حديث الأعمى، وهو حديث صحيح، وهو أن أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنه شق علي فقد بصري، فادع الله أن يرده لي، فقال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت، فقال: بل ادع لي، فقال: فائت الميضأة فتوضأ ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبيك، يا محمد يا نبي الرحمة إني أتوجه بك إلى ربي في قضاء حاجتي، اللهم شفعه في وشفعني فيه)، فالحديث إلى هنا صحيح، والرجل رد الله عليه بصره، وفي رواية أخرى بزيادة: أن عثمان بن حنيف في زمن عثمان بن عفان علم رجلاً كانت له عند عثمان بن عفان حاجة، وكان عثمان لا يلتفت إليه، فشكا الرجل إلى عثمان بن حنيف ذلك، فقال له: ائت الميضأة ثم توضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبيك، يا محمد يا نبي الرحمة إني أتوجه بك إلى ربي في قضاء حاجتي، فذهب إلى عثمان فقضى حاجته.

وهذه الزيادة رواها الطبراني، وشيخ الإسلام رجح ضعف هذه الزيادة، وضعفها كذلك الشيخ الألباني، والراجح أنها ضعيفة، أما أصل الحديث فهو صحيح، وما ورد فيه جائز، فلو جاء شخص وقال: اللهم إني أتوسل إليك بفلان، وفلان هذا قال له: أنا سأدعو لك، فهذا توسل صحيح ومشروع، وهو من التوسل بدعاء المسلم الصالح الحي، كما فعل عمر حينما قال للعباس: ادع الله وقال: اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبيك.

ولم يقل: نتوسل إليك بنبيك، وإنما قال: نتوسل إليك بعم نبيك، ففي هذا دليل على أن التوسل بالدعاء لا بالذات يجوز؛ فإن ذات الرسول موجودة، ولو كان التوسل بالذات جائزاً لتوسل بذات الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه ترك التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم وتوسل بدعاء العباس.

إذاً: أجمع الصحابة مع عمر رضي الله عنه على أن التوسل بذات الرسول صلى الله عليه وسلم غير مشروعة؛ لأن عمر ما كان يغفل عن

<<  <  ج: ص:  >  >>