للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عدد الرضعات المحرمات]

من هذه المسائل التي فيها النزاع على حمل المطلق على المقيد مسألة تقييد الرضاع المحرم، فقد اختلف العلماء في مسألة الرضاع المحرم على أقوال ثلاثة: القول الأول: وهو قول الأحناف الذين لا يقولون بحمل المطلق على المقيد إذا اتفق الحكم واختلف السبب، قالوا: نصف رضعة أو رضعة واحدة تحرم؛ للإطلاق.

ودليلهم: قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} [النساء:٢٣] فأطلق الرضاعة، فأقل شيء يطلق عليه اسم الرضاع يحرم، وأقل شيء هو رضعة واحدة حتى وإن لم تكن مشبعة.

فهنا الأحناف الذين لا يقولون بحمل المطلق على المقيد قالوا بأن الرضاع المحرم رضعة واحدة؛ لإطلاق قول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:٢٣].

أيضاً: ولحديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها في الصحيح: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) فالرضاع هنا مطلق، ويحرم من الرضاعة أقل شيء يسمى رضاعاً، ونحن نجعل المطلق على إطلاقه، فلو امرأة أرضعت طفلاً رضعةً واحدة أصبح ابناً لها من الرضاعة، وكل بناتها أخوات له، فلا يجوز أن يتزوج منهن.

القول الثاني: قول الذين يحملون المطلق على المقيد، فقد قال ابن المنذر، وأبو ثور، وداود الظاهري: الذي يحرم من الرضاع ثلاث رضعات، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) مطلق، ويكون تقييده بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحرم المصة ولا المصتان)، وفي رواية قال: (لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان).

وأيضاً: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم فقال: (أرضعت هذه امرأتي رضعة) فلم يحرمها عليهم.

ووجه الدلالة من حديث: (لا تحرم المصة ولا المصتان) أن مفهوم المخالفة أن ما فوق الثانية تحرم، وهذا قول الظاهرية، وقول أبي ثور من الشافعية.

القوال الثالث: قال جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة: نحن نقول بحمل المطلق على المقيد، ولا نقول بأن أقل الرضاع يحرم، بل لا بد من خمس رضعات مشبعات.

والمقيد الذي قيد إطلاق القرآن هو حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات مشبعات يحرمن، ثم نسخن إلى خمس رضعات مشبعات، فتوفى النبي صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن) يعني: بقيت على خمس رضعات حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم فهذه الآية منسوخة تلاوة لا حكماً.

والآية: (عشر رضعات مشبعات) نسخت حكماً وتلاوة.

والغرض المقصود هنا: أن قول عائشة: (وكان فيما يقرأ من القرآن بعد ممات النبي صلى الله عليه وسلم خمس رضعات مشبعات) يعني: أن الحكم باقٍ في كتاب الله، فقد أمرنا الله باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧].

وابن مسعود رضي الله عنه لعن النامصة والمتنمصة وقال: ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله، وهو في كتاب الله؟ فقالت له امرأة: لم أجده في كتاب الله، فقال لها: إن كنت قرأته فقد وجدته، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧]، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله النامصة والمتنمصة).

ونفس الأمر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:٧] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خمس رضعات مشبعات يحرمن).

فهذه دلالة واضحة جداً على أن الخمس الرضعات تحرم وغير الخمس الرضعات لا تحرم، كما هو في حديث عائشة.

الحديث الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة أبي حذيفة حين جاءته لتسأله في حال سالم ودخوله عليها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أرضعيه خمس رضعات) وهذا تحديد من النبي صلى الله عليه وسلم.

والراجح والصحيح في ذلك: أن خمس رضعات مشبعات هي التي تحرم فقط، وأقل من ذلك لا تحرم.

أما بالنسبة للأحناف فنقول لهم: هذا مطلق وهذا مقيد، وقد اتفقا في الحكم والسبب، فالحكم هو التحريم، والسبب هو الرضاع.

وأما هم فقالوا: إن الأولى بينت الإطلاق، وأما الآية الثانية المنسوخة فبينت التقييد، ولنعمل بالاثنين: بالمطلق وبالمقيد، فكما قلتم: إن تحرير رقبة مؤمنة فيه مشقة على الناس، فأنتم كذلك قد ضيقتم على الناس، فلو أن طفلاً رضع رضعة واحدة حرمتم عليه كل بنات هذه المرأة فوقعتم فيما احتججتم به، فلا بد من ضابط وميزان عادل نأخذ به، وهو اتفاق الحكم والسبب، ولا بد أن نحمل المطلق على المقيد، وهنا الحكم التحريم، والسبب الرضاع، والرضاع مقيد بالخمس رضعات، فلا بد من حمل مطلق الرضاع على التقييد بالعدد.

أما الذين يقولون: إنه يحرم من الرضاع ثلاث رضعات فالرد عليهم كالتالي: أنهم احتجوا بمفهوم المخالفة، واحتج الجمهور بالمنطوق، وعند التعارض يقدم المنطوق على المفهوم؛ لأن المنطوق أقوى في الدلالة، والمفهوم يحتمل احتمالات.

فالمفهوم أصلاً أن الإملاجة والإملاجتان لا تحرم، إذاً: فالثلاث أو الأربع أو الخمس تحتمل نفس هذا الاحتمال، فموافقة لحديث عائشة، ولا بد ألا يحرم إلا الخمس، والدليل على ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ سهلة: (أرضعيه خمس رضعات) ولو كان أقل لبين؛ لأمرين اثنين: الأمر الأول: أن هذا وقت تبيين، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

والأمر الثاني: إن هذا أيسر على المرأة، لا سيما وهي كبيرة في السن، يعني: أن ثديها ممكن ألا يأتي بالرضعة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة.

وأما كيفية الرضاعة فيمكن يكون من قارورة، وإن قلنا بأنه كشفت الثدي ورضع منه فهذا للضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، والصحيح الراجح أنها فرغت الرضعات في قارورة، ثم شربها، فلو كانت ثلاث رضعات ليسر النبي صلى الله عليه وسلم عليها حتى لا تتعب فتأتي بخمس رضعات مشبعات.

فنقول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أرضعيه خمس رضعات)، ويؤكد أن التحريم لا يكون إلا في الخمس رضعات.

<<  <  ج: ص:  >  >>