[فضل علم أصول الفقه]
وقد بينا فضل أصول الفقه على الفقيه، وقلنا بأن القاعدة عند العلماء تنص على أن الفقيه العاري عن الأصول ليس بفقيه بل هو مقلد.
وترى كثيراً من المقلدين الذين يحفظون الأقوال ويرددونها ممن لا يحق لهم الفتوى، ولا يحق لهم أن يلزموا الناس بشيء؛ لأنهم مقلدون، فإذا سألت: ما الدليل؟ وما هو وجه استدلال العالم الذي قال بهذا القول من هذا الدليل؟ وجدته يضرب أخماسه في أسداسه، فهذا مقلد، ولا يجوز له أن يلزم الناس بشيء، لأنه يقلد غيره.
وقد فرق العلماء تفريقاً عظيماً بديعاً بين المقلد والعالم أو طالب العلم المجد الذي يعرف القول بالدليل، ويعرف كيفية استنباط العالم لهذا الدليل.
وقد سئل كثير من الناس عن الفقهاء أو المجتهدين، فبينوا أن درجات الفقه والعلم متفاوتة، فليس العلم بالدليل فقط، وإنما العلم بالأصل والقاعدة التي يمكن أن يستنبط منها الحكم، وإلا فكثير من الناس حفظة كما هو حال كثير من المحدثين، فقد كان ينقصهم الفقه، وكان الإمام أحمد يقول: كنا نزعم بأن المحدث صيدلاني، وأن الفقيه طبيب، فخرج علينا الشافعي رجلاً طبيباً صيدلانياً.
وقد عاب كثير من المحدثين على يحيى بن معين أنه لم يشتغل بفقه المتن، وقد قررت في المسجد أكثر من مرة قول شيخ الإسلام: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وفهم متنه.
والمقصود بفهم المتن: هو الفقه.
كان يحيى بن معين إماماً ترتعش منه فرائص المحدثين، فإذا دخل مجلساً من مجالس التحديث قام له كل المحدثين تعظيماً لعلمه وإجلالاً له، وأخذ كل واحد منهم كتابه فنظر فيه وإن كان ضابطاً ضبط صدر، فلا يتكلم بالحديث الواحد إلا بعد أن يكرره في نفسه مرات عديدة؛ خوفاً من أن يتكلم فيهم بجرح؛ لأنه كان إماماً في الجرح والتعديل.
وكان يحيى بن معين مشهوراً بدخوله على العلماء واختبارهم، فقد دخل مرة على أبي نعيم يختبره ومعه أحمد بن حنبل وكان قريناً له يجلس بجواره، فما تكلم أحمد، وأخذ يحيى بن معين يختبر أبا نعيم بأن لقنه بعضاً من الأحاديث بأسانيد مختلطة ليست من لفظه وليست صحيحة، فسمعها أبو نعيم فانتبه -وكان صاعقة في الحفظ- فنظر إلى أحمد ونظر إلى يحيى بن معين، فقال لـ أحمد: أنت أورع من أن تفعل ذلك، ونظر إلى يحيى بن معين فسكت عنه، ثم ضربه برجله فأوقعه إلى الخلف وقال: أنت أجرأ على ذلك.
فكان يحيى بن معين جهبذاً ونقاداً، وكان وقاد الذهن، يعني: الرواية للحديث وعلم الرجال والإسناد.
ولما لم يكن يحيى بن معين مهتماً بالفقه فقد وقع في أمر جلل عابه عليه كثير من أهل العلم في زمانه، فقد سألته امرأة فقالت: يا إمام! إن زوجي قد مات، وقد أوصى أن أغسله، أفأغسله وأنا حائض؟ فوقف يحيى بن معين واجماً لا يعرف كيف يرد عليها، فمر أبو ثور الكلبي -وهو من أصحاب الشافعي - وكان فقيهاً بارعاً، فقال لها: اسألي هذا الرجل فهو فقيه! فذهبت فسألته فقال لها: غسليه، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً فإذا أراد أن يرجل شعره يخرج رأسه من المسجد فترجله عائشة.
يعني: تغسل رأسه وتنظفه وهي حائض.
فلما قال أبو ثور ذلك قال يحيى: نعم، وهذا الحديث جاءني من طريق فلان وفلان وفلان وفلان عن فلان، فسرد الطرق التي يحفظ منها هذا الحديث.
فقالت له المرأة: ما نفعتك هذه الطرق وأنا أسألك فلا تجيب.
وهذه مزية من تعلم الفقه وعرف كيف يستنبط الحكم من الدليل.