للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قراءة المأموم الفاتحة خلف الإمام في الصلاة الجهرية]

ومن المسائل التي اختلف فيها العلماء بسبب الخلاف في إجماع أهل المدينة مسألة قراءة الفاتحة خلف الإمام في الصلاة الجهرية: فاختلف العلماء في المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: قول المالكية.

قالوا: بعدم جواز قراءة المأموم الفاتحة وإن كانوا يقولون بركنية قراءة المأموم الفاتحة خلف الإمام في الصلاة السرية وأنه إن لم يقرأ تبطل صلاته، وأما إن كانت جهرية فلا يقرأ، فلو أن الإمام يأخذ بالسنة فإنه يقرأ الفاتحة ثم يفتتح السورة ولا ينتظر المأموم لقراءة الفاتحة.

وعمدة الإمام مالك إجماع أهل المدينة على أنه لا يقرأ خلف الإمام في الصلاة الجهرية.

أولاً: نذكر الدليل على أن قراءة الفاتحة ركن من الأركان، فهي ركن لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب)، كذلك حديث المسيء؛ لأنه بين له الأركان لكن من بعيد.

وكذلك حديث: (من لم يصل بأم الكتاب فصلاته خداج خداج خداج) أي: ناقصة.

وأصرح ما في الباب للدلالة على ركنية قراءة الفاتحة هو حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب) وممكن لمعترض أن يقول: الصلاة هي ناقصة فقط لكنها صحيحة.

ونحن نقول: (لا صلاة) يعني: لا صلاة صحيحة (إلا بأم الكتاب).

المهم في هذه المسألة أن الإمام مالك استدل على عدم وجوب قراءة أم الكتاب في الجهرية بهذا الدليل، وجاء شيخ الإسلام ابن تيمية فرجح قوله، واستدل بدليل آخر، وهو حديث النبي صلى الله عليه وسلم -وهو مختلف في إسناده-: (من صلى خلف إمام قراءة الإمام قراءة للمأموم).

القول الثاني: قول الأحناف.

قالوا: لا يجب عليه قراءة أم الكتاب لا سرية ولا جهرية مطلقاً.

القول الثالث: قول الشافعية.

قالوا: يجب عليه قراءة أم الكتاب في الجهرية وفي السرية.

إذاً: هي أقوال ثلاثة: لا يجب مطلقاً، يجب مطلقاً، قول وسط، والقول الوسط هو قول الإمام مالك قال: يجب عليه قراءة الفاتحة في السرية دون الجهرية، واعتمدوا على إجماع أهل المدينة، واستدل له شيخ الإسلام ابن تيمية بالحديث الذي ذكرناه.

ولما اعترض عليهم: لم تفرقون بين السرية والجهرية؟ قالوا: التفريق عندنا لقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:٢٠٤]، فإذا قرئ القرآن من الإمام وجب عليك ألا تقرأ؛ لأن القارئ مع قراءة الإمام ليس بمنصت، فهو مخالف لظاهر الآية، قالوا: وقراءة الإمام لا تسمع إلا في الجهرية، ففرقنا بين السرية والجهرية.

والقول الراجح الذي لا محيد عنه في هذه المسألة هو: أنه يجب قراءة الفاتحة سواء في السرية أو الجهرية، أما في السرية فظاهر جداً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب)، وبين أن السبع المثاني هي أم الكتاب، و {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:١] آية من آياتها، (فلا صلاة) يعني: لا صلاة صحيحة إلا بأم الكتاب.

وأما حديث: (قراءة الإمام قراءة للمأموم) فهو عام مخصوص بهذا الحديث، بمعنى: أن قراءة الإمام قراءة للمأموم في الفاتحة وفي السورة بعد الفاتحة، لكن جاء دليل من النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب)، فخصص الفاتحة، فيلزم بقراءة أم الكتاب، وتبقى لنا: (قراءة الإمام قراءة للمأموم) في السورة التي بعد الفاتحة.

إذاً أقول للمأموم: إذا صليت خلف الإمام والإمام يقرأ فاقرأ خلفه الفاتحة، ثم لا تقرأ السورة بعد الفاتحة؛ لأن قراءة الإمام قراءة لك إلا في الفاتحة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب).

والذي يعضد ذلك ويبينه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالقراءة في صلاة الفجر، فقام رجل خلفه وهو يقول: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:١ - ٢] ويقرأ، فارتجت القراءة وحدث تشويش على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من صلاته قال: (أيكم ينازعني في الصلاة؟ فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله قرأت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:١]، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقرأ إلا بأم الكتاب).

هنا نهاه عن القراءة؛ لأن قراءة الإمام قراءة للمأموم، ثم استثنى أم الكتاب، وهذا تصريح، يعني: لا تنازعني في القراءة إلا إذا كنت تقرأ بالفاتحة.

يعني: لو وجدتني أقرأ فاقرأ الفاتحة حتى لو شوشت علي؛ لأن صلاتك لا تصح إلا بقراءة الفاتحة، ولو وجدتني أقرأ وأنت قد انتهيت من الفاتحة فلا تقرأ ولا تشوش علي، واعمل بقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:٢٠٤].

إذاً: أعدل الأقوال التي تلتئم معه الأدلة: أنه يجب قراءة الفاتحة في السرية والجهرية سواء قرأ الإمام أو سكت الإمام.

أما لو كان الإمام يسرع بقراءته ولا يترك وقتاً بين الفاتحة وبين السورة، فأقول: اقرأ الفاتحة في سكتات الإمام أو في نفسك؛ لأن أبا هريرة سئل في هذه المسألة: قال: (أرأيت إن قرأ الإمام -يعني: لم يسكت الإمام- فقال له أبو هريرة: يا بني! اقرأها في نفسك).

وأيضاً كثير من العلماء أفتى بقراءتها في سكتات الإمام، مثلاً يقرأ الإمام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢] ويأخذ نفساً، فتقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢]، هو يقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:٣] وأنت تقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:٣].

إذاً: في سكتات الإمام تقرأ ذلك حتى تفوز بالمصلحتين.

<<  <  ج: ص:  >  >>