[من بلغه الحديث فلم يعمل به لعدم ثبوته عنده]
الصنف الثالث: هو من بلغه الحديث في المسألة لكنه لم يفهمه على مراده أو لم يثبت هذا الحديث عنده: مثال ذلك: عمر بن الخطاب: فقد كان يذهب إلى أن المطلقة ثلاثاً تثبت لها النفقة والسكنى، فإذا أراد زوجها أن يرجع إليها لزمه أن يتزوج بها غيره وأن يدخل بها ثم يطلقها بعد ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)، إذاً: فلابد أن يطأها الآخر، وهذا هو الراجح الصحيح.
وقد جاءت فاطمة بنت قيس إلى عمر فقالت: (يا أمير المؤمنين! إني قد طلقني زوجي فبت طلاقي -تعني: طلقني ثلاثاً- فلم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم لي سكنى ولا نفقة)، فقال عمر بن الخطاب: والله لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لامرأة لا ندري أنسيت أم تذكرت.
وهذا يدل على الفهم الصحيح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).
وزيادة: (ولا سنة نبينا)، لا تصح؛ لأن في إسنادها رجلاً هالكاً، والذي ثبت عن عمر بالسند الصحيح هو قوله: (والله لا نترك كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري تذكرت أم نسيت)، وهو يشير إلى قول الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:٦].
فهو استنبط من هذه الآيات وجوب النفقة والسكنى للمبتوتة على الزوج، ورد حديث فاطمة بنت قيس، وكأنه شكك في صحة ثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمحدثون لا يأخذون بهذا، ولا تضعف أحاديث المرأة بهذه الأقوال أبداً، بل إن فاطمة بنت قيس كانت من أحفظ الصحابيات رضي الله عنها وأرضاها، فقد حفظت حديث الدجال من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة قاله على المنبر، وذلك عندما صعد على المنبر فابتسم وقال: (إن تميماً الداري حدثني).
والعلماء يلغزون بذلك ويقولون: كل الصحابة حدثوا عن رسول الله إلا فلاناً فإنه حدث عنه رسول الله، وهو: تميم الداري، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حدثني تميم الداري بحديث أعجبني كنت قد حدثتكم به)، ثم ذكر حديث الدجال الطويل، ومع ذلك فقد حفظته فاطمة ثم سردته للأمة بأسرها، فنحن نأخذ بقولها ونرد قول عمر الفاروق وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خالف قول النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أمثلة الصحابة الذين بلغهم النص ولم يفهموه: عدي بن حاتم رضي الله عنه وأرضاه: فقد بلغه قول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:١٨٧]، فأخذ خيطاً أبيض ووضعه تحت الوسادة، وأخذ حبلاً أسود ووضعه تحت الوسادة ثم نام، وكان كلما نظر إليهما لم يفرق بينهما فيأكل حتى طلعت الشمس ففرق بين الحبل الأسود والأبيض، فجاء إلى رسول الله فقال: (يا رسول الله! أكلت حتى طلعت الشمس، والله تعالى يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:١٨٧] فقال: أين وضعت الحبل؟ قال: تحت الوسادة، فقال: إن وسادك لعريض).
وبعضهم يقول: إن هذه سبة من الرسول صلى الله عليه وسلم له، وهذا خطأ على رسول الله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً.
والمقصود أن الخيط الأبيض: هو المستعرض في السماء كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، والخيط الأسود: هو طلوع الفجر المستطيل في السماء، فإذا ما قست السماء بالوسادة وشبهتها بها صارت الوسادة عريضة بذلك، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد فهم هذا الصحابي النص على خلاف الصحيح، ثم بين له النبي صلى الله عليه وسلم الفهم الصحيح، وبذلك محا الله هذا الخلاف في مسألة الصيام.
فهذا منشأ الخلاف في قوله صلى الله عليه وسلم.