ومن الأمثلة أيضاً: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، فكتاب الله قد فسر لنا العدد، قال الله تعالى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}[البقرة:٢٢٨] أي: ثلاث حيضات، والحامل حتى تضع حملها قال تعالى:{وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق:٤] وعدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر، قال تعالى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة:٢٣٤]، فإذا كان عندنا عدتان: عدة الحامل، وعدة المتوفى عنها زوجها، فنجمع بين الاثنين أن المرأة حامل ومات زوجها، فاختلف العلماء في حكمها، وهذا الخلاف نابع من عدم الاطلاع على الأحاديث.
فننظر إلى الدليلين فنعملهما؛ لأن كل الأدلة خرجت من مشكاة واحدة، فإعمال الدليلين أولى من إهمال واحد منهما.
فلذلك نظر علي بن أبي طالب وابن عباس في هذه المسألة فقالا: قال الله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق:٤]، وقال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة:٢٣٤]، فللجمع بينهما قالوا: تعتد بأبعد الأجلين، فإن كانت حاملاً ومات زوجها مات فننظر: إن كانت حاملاً في الشهر الثاني فعدتها أن تضع؛ لأن هذا أبعد، وإذا كانت في الشهر الخامس فعدتها أربعة أشهر وعشر؛ لأنه أبعد الأجلين.
وهذا الذي أفتى به علي وابن عباس، حتى إن أبا هريرة وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنكرا على ابن عباس، فتناظرا في هذه المسألة، فقال ابن عباس: تعتد أبعد الأجلين، ونعمل بالدليلين، فقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: لا والله! بل عندما تضع، أي: عدتها عندما تضع، فقال أبو هريرة: نبعث إلى أم سلمة حتى ننظر هل فيها سنة أم لا؟ فبعثوا إلى أم سلمة، فقالت أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها: إن سبيعة الأسلمية كانت حاملاً، ومات عنها زوجها، وما لبثت أن وضعت، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك وقال: تريدين النكاح يا لكع؟ لا والله حتى يبلغ الكتاب أربعة أشهر وعشراً، قالت: فجمعت عليَّ ثيابي فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما وضعت (قد حللت للنكاح)، وهنا فصل الخطاب بين الآيتين، فقد فصل النبي صلى الله عليه وسلم وبين لنا مرجحاً من المرجحين، وهو أن المرأة الحامل التي توفي عنها زوجها عدتها أن تضع حملها، إذاً إذا كان عندنا امرأة حامل، مر عليها أربعة أشهر وعشر، واشتاقت للنكاح، فماذا نقول لها؟ نقول: الراجح في الخلاف أنها تنتظر إلى أن ترضع، فإذا وضعت حملنا عموم قول الله تعالى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة:٢٣٤] على خصوص الحامل {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق:٤].