للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أقوال العلماء في معنى قوله تعالى: ((فأتوا حرثكم أنى شئتم))]

المسألة الثانية: التي تتعلق بالاشتراك في اللفظ: هي مسألة إتيان المرأة في الدبر، وهذه مسألة مشكلة جداً، والناس تحسب أنها مسألة هينة، قال الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:٢٢٣].

قلنا: إن الخلاف بين العلماء يكون في كلمة تكلم الله بها في كتابه، لكنها تحتمل عند أهل اللغة أكثر من معنى، وهذه الكلمة هي قول الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم} [البقرة:٢٢٣].

اختلف علماء اللغة في معناها، وقالوا: إن لها أكثر من معنى، قالوا: (أنى) تأتي بمعنى كيف، والدليل قول الله تعالى حاكياً عن الرجل الذي مر على القرية وهي خاوية: {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:٢٥٩].

يعني: كيف يحيي الله هذه الأرض بعد موتها؟ أيضاً قال أهل اللغة: هناك معنى آخر لكلمة (أنى) وهي أن تأتي بمعنى متى، وأتوا ببيت شعر يدل على ذلك، لكن هذا ليس في محل النزاع فنطرحه جانباً.

قالوا: وعندنا معنى ثالث لكلمة (أنى) وهي أن تأتي بمعنى أين، والدليل على ذلك من كتاب الله، قال الله تعالى حاكياً عن زكريا، عندما دخل على مريم رضي الله عنها وأرضاها، فوجد عنده فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فقال: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران:٣٧].

أي: من أين لك هذا؟ فهنا (أنى) بمعنى أين.

لما اختلف المعنى في (أنى) وأنها تأتي بمعنى كيف وأين أختلف الفقهاء في ذلك، فتعلق بعض العلماء بالمعنى الأول وهو كيف، وقالوا: قال الله تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) أي: كيف شئتم وقد فسرها كثير من الصحابة: مقبلين ومدبرين، بمعنى يجامع الرجل امرأته من الأمام ومن الخلف، لكن في محل الحرث، في محل الولد الذي هو الفرج، ولذلك كان أنس يقول: كان إخواننا من المهاجرين يشرحون النساء تشريحاً يعني: ما يتركون موضعاً إلا ويستعملونه في التمتع بالأزواج، وهذا مما أباحه الشرع، جاء في الحديث: (وفي بضع أحدكم صدقة) فقال: كانوا يشرحون النساء تشريحاً، فكان الواحد منهم يأتي امرأته مقبلة ومدبرة وعلى جنب ومضطجعة، فلما جاء المهاجرون إلى المدينة، تزوج بعض المهاجرين من الأنصار، وكان الأنصار لا يأتون النساء إلا في موضع واحد، على الظهر مستلقية فقط، فقام الذي هاجر إلى المدينة ليجامع امرأته كما كان يفعل، مقبلة ومدبرة ومضطجعة وعلى جنب، فقالت: لا إلا في موضع واحد، وهو الاستلقاء؛ لأنها لم تعلم بهذا الأمر، فلما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم هذا، نزل قول الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:٢٢٣].

يعني: كيف شئتم مقبلين مدبرين، المقصود أن يكون في محل الولد، قالوا: ولنا أدلة على أن معنى (أنى) كيف؛ لأننا لو قلنا بأين للزمت علينا لوازم باطلة ودخلنا في المحظور، وهو حرمة إتيان المرأة في الدبر، والدليل على الحرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث قال: (ملعون من أتى امرأة في دبرها) وهذا تصريح بالتحريم، ووجه الدلالة من التحريم في هذا الحديث: أن اللعن هو الطرد من رحمة الله، ولا يطرد من رحمة الله إلا من أتى بكبيرة.

والدليل الثاني: قال النبي صلى الله عليه وسلم (من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد) وهذا أوضح في الدلالة؛ لأن الكفر دلالة على فعل الكبيرة، إن لم يكن كفراً أكبر فهو كفر أصغر، وهذا هو الراجح الصحيح.

القول الثاني: قول بعض أهل العلم وهم ندر، فهؤلاء قالوا بحلية إتيان المرأة في دبرها، يعني: المسألة خلافية.

فهؤلاء قالوا: قال الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:٢٢٣].

أي: فأتوا حرثكم أين شئتم، وقالوا: إن أين هنا تدل على العموم، يعني: أين شئتم، سواء في الفخذ أو في الورك أو في الثدي أو في الفم أو في الدبر أو في الفرج، الأصل عدم المنع حتى يأتي دليل بالمنع، فقالوا: يجوز للرجل أن يجامع امرأته في دبرها، وقالوا أيضاً: وإن كان الأصل معنا فنحن نقول بالقياس، وهذا نقل عن الشافعي ولكنه ضعيف، فروي أنه قال: أقيس الدبر على القبل، بجامع الدخول والإيلاج، أو بجامع الاستمتاع بالاستحلال بالعقد، لأنه ما دفع هذا المهر لها إلا ليستمتع بها كلية، وأنتم توافقوننا على أنه يجوز للرجل أن يباشر الإلية، بل حتى الدبر وإن قلتم: مع عدم الإيلاح، فنحن نقول بالإيلاج؛ لعدم المنع، وقد ورد عن بعض المحدثين، وهو عيسى بن يونس، وهو ثقة وكانوا قد سألوه عن إتيان المرأة في دبرها، فقال: هو أشهى من الماء البارد، يعني كأنه يقول: ليس بالحلال فقط بل هو أشهى من الماء البارد، وفي رواية في كتاب السر لـ مالك، وهذا الكتاب كأنه مكذوب عليه، أنهم سألوا مالكاً: أتؤتى المرأة في دبرها؟ قال: اغتسلت منه الآن.

فالقول بحلية إتيان المرأة في دبرها منسوب لـ مالك وللشافعي.

ونقول في تحرير محل النزاع: الراجح الصحيح: هو حرمة إتيان المرأة في دبرها، وهو كبيرة من الكبائر، وأقول: نعم هناك خلاف معتبر؛ لأن بعضهم يقول: إن ابن عمر الذي كان يقول: إن (أنى) بمعنى أين، لكن قالوا: إنه رجع عن ذلك، وقالوا: لم يثبت عن مالك هذا القول، أما الشافعي فقوله مرجوح جداً وضعيف، فالصحيح أن الشافعي قال بحرمة إتيان المرأة في دبرها.

إذاً: الصحيح الراجح أنه لا يجوز للرجل أن يأتي المرأة في دبرها، وإن كنت أقول بضعف الأحاديث التي تقول بأن من أتى المرأة في الدبر ملعون؛ لأن هذه الأحاديث أسانيدها كلها ضعيفة، وقد ضعف البخاري من المتقدمين المتقنين هذه الأحاديث كلها، وإن صححها الشيخ الألباني.

إن قلنا بصحة هذه الأحاديث لغيرها، تبقى مشتملة على التحسين، لكن هناك ما يعضد قول من يقول بحرمة إتيان المرأة في دبرها وهو القياس الجلي، والقياس أنواع: النوع الأول: قياس العلة، وأصل القياس هو قياس العلة؛ لأن العلة في الأصل تكون نفس العلة في الفرع، مثال ذلك: حرم الله شرب الخمر؛ وعلة التحريم الإسكار مع النشوة، فلو وجد الإسكار مع النشوة في النبيذ نقول بالحرمة، قياساً على الخمر؛ لأن العلة الموجودة في الخمر هي موجودة أيضاً في النبيذ، فيبقى الحكم واحد، للاشتراك بجامع العلة، ومعنى قياس العلة: هو إلحاق فرع بأصل في الحكم بجامع العلة.

النوع الثاني: قياس الشبه، وهو إلحاق فرع بأصل في الحكم للشبه بين الفرع والأصل، مثال ذلك: أن العلماء اختلفوا في العبد، هل العبد فيه شبه من الإنسان أم فيه شبه من البهيمة؟ فيه شبه من الإنسان من حيث أصل الخلقة، لكن فيه شبه من البهيمة من حيث إنه يباع ويشترى وله ثمن، فهذا قياس الشبه.

القياس الثالث: قياس العكس، وقياس العكس تكون العلة في الفرع عكس العلة في الأصل، فيكون الحكم في الفرع مساوياً للحكم في الأصل، مثال ذلك: رجل زنى ورجل جامع امرأته في آن واحد، فالذي جامع امرأته في حلال وله بذلك أجر، أما الثاني الذي زنى فهو جامع مثل جماع الأول، فالجماع واحد لكن هنا الوصف مختلف، هذا حلال وهذا حرام، فيكون الحكم مختلفاً، فالأول مثاب، والثاني معاقب.

إن القياس الذي نتكلم عنه الآن هو القياس الجلي أو قياس الأولى، بمعنى: أن العلة في الفرع أقوى منها في الأصل، مثال ذلك: رجل يضرب أمه وينتهرها ويسبها، يقول ابن حزم: لو فعل ذلك ليس بآثم، لأن الله تعالى يقول: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:٢٣].

فالمنهي هو التأفف فقط، لكن نقول: إن العلة في الفرع الذي هو الضرب أقوى منها في الأصل الذي هو التأفف، فيحرم الضرب من باب أولى، خلافاً لـ ابن حزم الذي لا يقول بالقياس لا الجلي ولا غير الجلي، وهذا خطأ فاحش، والصحيح أن العلة هنا في الفرع أقوى منها في الأصل.

فنقول: الذي يرجح لنا مسألة: أن إتيان المرأة في دبرها حرام هو القياس الجلي، قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:٢٢٢].

ونستنبط من هذه الآية لما حرم الله على الزوج أن يأتي المرأة وهي حائض، قال بوصف دقيق: ((هُوَ أَذًى)).

يعني: يتأذى به الرجل معنوياً وحسياً، وقد قال الأطباء في وقتنا المعاصر: إن الجماع في زمن الحيض يأتي بأضرار جسيمة على الرجل، فيؤذى معنوياً ويؤذى حسياً، معنوياً من منظر الدم فقد يتقزز من امرأته، بل قد لا يجامعها وهي طاهر، والأذى في الدبر أغلظ وأقوى من الأذى في الفرج؛ لأنه محل العذرة، فهو أشد من أذى الدم، فإن كان الأذى هنا في الدبر أقوى من الأذى في الفرج، فمن باب أولى إذا منع من الجماع في زمن الحيض في الفرج للأذى أن يمنع من أن يأتي المرأة في دبرها للأذى، فيكون القول الصحيح الراجح في قول الله تعالى: ((أَنَّى شِئْتُمْ)) يعني: كيف شئتم، مقبلة ومدبرة، لكن في محل الحرث، ولذلك الإمام مالك لما قيل له: كيف تقول ذلك؟ قال: من قال علي هذا فقد كذب، كيف وقد قال الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة:٢٢٣]، والحرث محل الولد، وإن كان الشافعي قد رده على محمد بن الحسن فقال: أرأيت لو نكحها في ثديها أو نكحها في وركها؟ أيصح أم لا يصح؟ فإن قال: لا يصح، فهذا مخالف، لكن الرد على هذا القول هين، نقول: إن الحرث هو الأصل، وغير ذلك جاء الدليل بحله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشر امرأته وهي حائض دون الفرج، سواء فوق السرة أو تحت السرة أو في أي جزئية من جسدها يحل للمرء أن يتمتع به، لكن دون أن يولج، والصحيح الراجح في التمتع بالحائض دون الفرج ما ق

<<  <  ج: ص:  >  >>