المثال الثاني الذي حدث فيه خلاف بين الشافعية وبين الجمهور: مسألة الرجوع في العطية، فعند الجمهور لا يجوز الرجوع فيها، وعند الشافعية يجوز لأي امرئ أعطى عطية هبة أن يرجع فيها.
وما هي شروط العطية حتى تصح؟ الأول: أن يكون الواهب مالكاً لها.
الثاني: أن يكون مكلفاً؛ لأن الهبة من الصغير غير المكلف لا تصح.
الثالث: ألا يكون عليه دين.
وهذا فقه عال فهمه شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا يجوز للمديون أن يهب هبة لأحد.
الرابع: الإيجاب والقبول.
أي: لا بد من قبض الهبة أو العطية؛ لأنه لو لم يقبض الهبة فيمكن أن يرجع فيها، والدليل على هذا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان قد ترك زرعاً أو ثمراً لـ عائشة فلم تقبضه وهو على فراش الموت، فقال لها: قبضتيه؟ قالت: لا، قال أبو بكر: هو الآن بين الورثة.
إذاً: يصح الرجوع قبل القبض، أما إذا قبض الموهوب له الهبة فإنه لا يصح الرجوع، والدليل على قول الجمهور قول النبي صلى الله عليه وسلم:(الراجع في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه).
وقال الشافعية: كل واهب إذا أراد أن يرجع في هبته فله أن يرجع في هبته، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الراجع في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع)، يقول الشافعية: هذا حديث إسناده كالشمس، ويقول أحمد: حديث صحيح، ويقول مالك: إسناده لا غبار عليه، ويقول أبو حنيفة: حديث صحيح، إذاً: بلغهم الدليل وعلموا صحته، لكن الخلاف في فهم مراد رسول الله، فـ الشافعي فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم:(الراجع في هبته كالكلب يقيء ثم يعود) أن الكلب إذا استقاء ثم أكل قيئه فإنه يحل له، فكذلك الواهب يجوز له ويباح له أن يعود في هبته كما أن الكلب يعود في قيئه، وهذا فهم دقيق، لكنه ليس براجح بل هو مرجوح جداً، والرد عليه سهل وهين، وهو أن الإمام أحمد بن حنبل عند مناظرته للشافعي أجاب على الشافعي بهذا
الجواب
قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات قال: (ليس لنا مثل السوء) يعني: لا يجوز لنا أن نتمثل بما تتمثل به الكلاب ولا نفعل مثل ما تفعل الكلاب، فهذه دلالة واضحة جداً على أن الواهب لا يجوز له أن يرجع في هبته بحال من الأحوال.