[اختلاف العلماء في مسألة طهارة المني أو نجاسته]
المسألة الثانية: هل المني نجس أم هو طاهر؟ يعني: لو أن رجلاً جامع امرأته وأصاب المني ثوبه أو المكان الذي جامعها فيه فهل هذا المحل يكون نجساً أم يكون طاهراً؟ أقول: في هذا خلاف بين العلماء، وسبب الخلاف هو الأدلة الظاهرة التعارض، قال الأحناف والمالكية بنجاسة المني، والدليل على ذلك الحديث الذي في صحيح البخاري أن عائشة قالت: (كنت أغسل ثوب النبي صلى الله عليه وسلم من المني، فيذهب يصلي وبقع الماء على ثوبه) فهذا حديث ظاهر جداً، قالوا: والغسل لا يكون إلا من نجاسة، ولو كان غير نجس لما غسلته.
وقالوا: عندنا رواية أخرى نستدل بها، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يغسل الثوب من البول والغائط والمني) وهذه دلالة اقتران المني بالبول والغائط وهما نجسان فيكون المني نجساً.
وقال الحنابلة والشافعية: المني طاهر وليس بنجس، والدليل على ذلك ما جاء في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت (كنت أفرك المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ويذهب ويصلي فيه) يعني: تدلك المني ولا تغسله، وهذا مرفوع بالتقرير، كأن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع عليها وهي تفرك المني من ثوبه فيصلي فيه.
الدليل الثاني: ورد في صحيح ابن خزيمة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه، ويحته من ثوبه يابساً ثم يصلي فيه).
الدليل الثالث: عن ابن عباس وإن تكلم فيه بعض العلماء لكنه صحيح، أن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما المني كالبصاق والمخاط) والبصاق طاهر باتفاق العلماء لكنه مستقذر.
فهذه أدلة صحيحة في البخاري وغيره وفيها الغسل وفيها الدلك والفرك، فكيف نجمع بينها؟ نقول: تحرير محل النزاع: أن الأدلة ظاهرها التعارض، فنجم عن ذلك الخلاف بين الفقهاء، لكن كيف نعتذر للأئمة، ونعلم أن الأئمة لم يقولوا بالهوى في الأحكام، بل كانوا يتلمسون السنة، لكن منهم من غابت عنه السنة، ومنهم من قاس قياساً بعدما رأى أن هذا الدليل ضعيفاً لا يوافق الحق، ومنهم من ظهرت له السنن فحكم بها، وهذا الذي بسببه جعل شيخ الإسلام يؤلف رسالة صغيرة اسمها (رفع الملام عن الأئمة الأعلام).
فنقول: الخلاف بين الفقهاء له أدلة، ما كان الأمر عن هوى وتعصب مذهبي، بل كان الخلاف للأدلة التي ظاهرها التعارض، فعلينا أن ننظر هل الأدلة متعارضة وإلا يمكن الجمع بينها أو الترجيح إن لم يمكن الجمع؟ نقول: إن قول الشافعة والحنابلة: إن المني طاهر وهو الراجح الصحيح، ونقول: إن أدلة غسل المني ليس فيها ما يبين نجاسة المني ولا طهارته، وكون عائشة غسلت المني من الثوب، فيكون هذا الغسل للاستقذار، استحباباً لا وجوباً، أما حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغسل الثوب من البول ومن الغائط ومن المني)، فهذا الحديث ضعيف ولا حجة لكم فيه؛ لأن الأحكام لا تبنى إلا على الأحاديث الصحيحة.
ثانياً: لو صح الحديث، فاستدلالكم بدلالة اقتران المني مع البول لا يعطيه حكمه، لأن دلالة الاقتران ضعيفة، والدليل على ذلك الله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ} [الأنعام:١٤١].
فالأكل مستحب، لكن إتيان الزكاة واجبة، فهذا يبين أن دلالة الاقتران ضعيفة، فالصحيح الراجح في ذلك أن غسل عائشة للثوب كان عن استحباب، وأما الفرك فهو دلالة على عدم النجاسة، فيكون المني طاهراً، والذي يرجح لك ذلك جلياً هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق على الله وأفضل الخلق أجمعين وإمام المرسلين، لا يمكن أن يقول قائل: إنه قد ولد من نجاسة أبداً، وهذه التي احتج بها الشافعي على محمد بن الحسن وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد من شيء طاهر، ولا يمكن أن يولد النبي صلى الله عليه وسلم من شيء نجس، فلو كان المني نجساً لكان متولداً عنه.
إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أطهر الخلق أجمعين، وأفضل الخلق أجمعين لا يمكن أن يولد إلا من طاهر، وهذا يرجح بأن المني طاهر وليس بنجس.