[حكم غسل الرجل في الوضوء]
فالجمهور من أهل العلم يرون أن غسل الرجل هو الوارد، وهو الذي يجب، ومعنى ذلك أن المسح عندهم لا يجزئ؛ لأن الواجب معناه هو الذي يجزئ وهو الذي يقبل، واحتجوا بالقراءة المشهورة: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)) [المائدة:٦] وعضد ذلك الاستدلال أحاديث كثيرة، منها حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما كانوا في سفرة؛ فنظر إلى أقوام يتوضئون فكانوا يمسحون على أرجلهم، فصرخ فيهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (ويل للأعقاب من النار) فهذه دلالة على أن المسح لا يجزئ.
القول الثاني: قول من أخذ بالقراءة الثانية وهي قراءة: (وأرجلِكم)، وهو قول ذهب إليه أنس بن مالك وابن عباس، وهو قول الشيعة، فقالوا: الواجب هو المسح، ولا بد أن يقولوا: إن الغسل يجزئ؛ لأن الغسل يشمل المسح.
القول الثالث: لـ ابن جرير الطبري، فقد نظر إلى القراءتين فقال: المصلي مخير بين أن يغسل وبين أن يمسح، وهذا كلام جيد جداً، وهو من الحسن بمكان؛ ذلك لأنه يعضد القاعدة التي قعدها العلماء: إعمال الدليلين أولى من إعمال أحدهما، لكن يشكل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل للأعقاب من النار)؛ لأنه لم يرض بالمسح.
القول الرابع: قول ابن حزم، وهو قول عجيب، فقد قال: إنه يجب على المصلي الغسل والمسح، ولا بد أن يجمع بين الغسل وبين المسح، وحجته في قوله أن الله جل وعلا أمر بالغسل وأمر بالمسح، ففي القراءة الأولى أمر بالغسل في قوله: ((وَأَرْجُلَكُمْ))، وفي القراءة الثانية أمر بالمسح، وكلا الأمرين من الله، وهذا القول قريب من كلام ابن جرير.
ولكن الأصل إذا تعارضت القراءات في حكم من الأحكام، أو كان ظاهرها التعارض، فإنه لا بد لنا من الرجوع للسنة والمرجحات.
ومن الأدلة التي تعضد وجوب الغسل: أن جميع الذين رووا ونقلوا صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: (فغسل رجله ثلاثاً)، وفي حديث عثمان المتفق عليه قال: (فغسل رجله إلى الكعبين) ولم يذكر ثلاثاً ولا واحدة.
فالغرض المقصود أن كلاً من زيد أو أسامة أو علي بن أبي طالب أو عثمان أو أنس، وكل من روى لنا وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ما قال أنه قد مسح على رجله مرة واحدة، إذاً فعل النبي صلى الله عليه وسلم المداوم عليه دل على أن الواجب هو الغسل.
لكن الأصل في الفعل أنه لا يفيد الوجوب، ولكن الفعل هنا يفيد الوجوب للقاعدة التي تقول: بيان الواجب واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين لنا الوضوء قد بين لنا ما أوجب الله علينا، والقاعدة عند العلماء: بيان الواجب واجب.
والواجب هو قول الله تعالى: ((فَاغْسِلُوا)) وهذا لفظ أمر، وظاهر الأمر الوجوب، فأوجب علينا الغسل، والقراءة الثانية أوجب المسح، فلو كان المسح هو المراد لمسح مرة واحدة ليبين لنا الجواز؛ لأنه لما حرم الشرب قائماً شرب هو قائماً؛ ليبين لنا أن هذه ليست على التحريم ولكنها على الكراهة.
أما الإجابة عن القراءة الثانية فهي من وجوه: الوجه الأول: أن القراءة بالجر جاءت للجوار، فالجر هنا للجوار، وهذه معروفة في اللغة وفي أشعار العرب؛ بل ورد في القرآن جر ما حقه الرفع من أجل الجوار، قال الله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن:٣٥]، وقد ورد في القراءة السبعية الأخرى: (يرسل عليكما شواظ من نارٍ ونحاسٍ)، مع أن النحاس مختلف، فقالوا: الجر هنا للمجاورة، والأصل فيها الرفع، وهي القراءة المشهورة: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن:٣٥] فلما جرت في القراءة الثانية جرت للمجاورة.
الوجه الثاني: أن قراءة: (وأرجلِكم) خاصة بالخف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث صحيح عن المغيرة بن شعبة: (قام فبال على سباطة قوم قائماً، ثم توضأ، فلما توضأ أهوى المغيرة لينزع خف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، ثم مسح على خفيه) فتكون (وأرجلكم) عطفاً لبيان جواز المسح على الخفين.
والرد على كلام ابن جرير الطبري الذي يقول: يجوز الأخذ بالقراءتين: بأنه لو كان صحيحاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، لبيان الجواز، ولو كان يجزئ المسح لبينه، ولما أنكر على من مسح وقال: (ويل للأعقاب من النار).