[ثمرة الخلاف في دلالة العام]
إن ثمرة الخلاف تظهر في المسائل الفقهية، والفائدة أن يعرف طالب العلم أن يحرر محل النزاع وكيف يرجح.
فإذا قلنا: إن قول الجمهور هو القول الصحيح فلننظر في المسائل العلمية.
المسألة الأولى: حكم الذبيحة التي ترك فيها ذابحها التسمية.
فلو أراد رجل أن يعق عن ولده، فأخذ الذبيحة وذبحها ولم يسم، فهل تؤكل الذبيحة أو لا؟ لقد اختلف العلماء في هذه المسألة فالأحناف الذين يقولون: إن دلالة العام على أفراده قطعية قالوا: لا تؤكل ذبيحة من لم يسم، والدليل: قول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:١٢١]، وهذه الدلالة دلالة عموم لا خصوص، ووجه العموم {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:١٢١].
وقوله: (مما) هي من الأسماء المبهمة تدل على العموم ولا سيما لو قصدنا بـ (مما) هنا ذبيحة فتكون نكرة في سياق النهي فتدل على العموم يعني: لا تأكلوا كل ذبيحة لم يذكر فيها اسم الله، ويدخل في كل ذبيحة: ذبيحة المسلم، وذبيحة الكافر، وذبيحة الوثني، وذبيحة أهل الكتاب، والدلالة عند الأحناف على هذا دلالة قطعية، ولكن الأحناف استثنوا فقالوا: لو ذبح المسلم ولم يسم ناسياً فيجوز أن تؤكل ذبيحته، لأن الناسي حكمه حكم الذاكر، وقد جاء في الحديث: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) وكأنهم خالفوا القاعدة التي قعدوها قبل ذلك، والمالكية يقولون: إن المراد من الحديث رفع الحكم ورفع الإثم.
وقول الأحناف هذا هو أيضاً قول الحنابلة والمالكية على ما أذكر.
والقول الثاني: قول الشافعية ورواية عن أحمد: أن التسمية ليست واجبة، وأنه إذا ذبح المسلم دون أن يسمي فللمسلم أن يأكل من تلك الذبيحة؛ لأن القاعدة عندهم أن العموم دلالته على أفراده دلالة ظنية كقول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:١٢١] وهذا العموم أفراده هي: ذبيحة مسلم وذبيحة الكتابي وذبيحة الوثني وذبيحة الكافر، ودلالته على هذا كله دلالة ظنية يعني: أنه بالإمكان أن يخصص هذا العموم، لأنه يحتمل طروء شيء مخصص بخلاف مذهب الأحناف، قالوا: ونحن نقرر هذه القاعدة وإن خالفنا من خالفنا؛ لأنه جاء في البخاري عن عائشة (قالت عائشة: إن أقواماً قالوا: يا رسول الله إنا يأتينا اللحم من أقوام لا نعلم أذكروا اسم الله أم لم يذكروا اسم الله، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: سموا أنتم وكلوا) ووجه الدلالة أنه لو كانت التسمية واجبة لما جاز الأكل منها مع الشك، ومع ذلك قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (سموا أنتم وكلوا).
والدليل الثاني: جاء عند أبي داود في المراسيل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم يذبح على اسم الله ذكر أم نسي)، قالوا: وهذه الأدلة عندنا مخصصة لعموم قول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:١٢١]، والذي يوضح ذلك أن الله أباح الأكل من ذبائح أهل الكتاب، وأهل الكتاب غالباً لا يسمون، ففيه دلالة على أن التسمية سنة.
أقول: من جهة التقعيد والتقسيم فكلام الشافعية أقوى؛ لأننا نقول: بأن قول الجمهور أقوى في أن كل عام قد يخصص وأن التخصيص وارد، فتكون الدلالة على الأفراد ظنية، وأما من جهة الأثر فقول الأحناف أقوى، وأنا أميل لذلك وأقول: لا يجوز الأكل من الذبيحة إذا لم يسم عليها؛ لعموم قول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:١٢١]، وما ذكره غيرهم من أنه قد خصص هذا العموم فليس ذلك بمخصص، فحديث أبي داود ضعيف، والضعيف لا يخصص به، وأما حديث البخاري فهو صحيح لكنه لا يسلم من المعارضة حتى يخصص، قالوا: كيف؟ قلنا: قول عائشة: يأتون باللحم فلم نعلم الحديث فقال رسول الله: (سموا أنتم) فهذا إرجاع من النبي صلى الله عليه وسلم لهم إلى الأصل، إذ الأصل أن المسلم إذا ذبح أنه لا يذبح إلا أن يسمي، وهذا الأصل لا ننتقل عنه إلا بدليل، فالشك لا يزيل اليقين، واليقين أن الأصل في المسلم أنه لا يذبح إلا إذا سمى، فأحالهم النبي على الأصل، لأنهم ليس عندهم يقين يزيل هذا الأصل عن أصله، فكأنه يقول: إن المسلم الأصل فيه أنه سيذبح ويسمي، وإذا شك في التسمية فهذا الشك لا يزيل اليقين، فلا يصح هذا مخصصاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أباح لهم الأكل مع عدم وجود التسمية والنزاع ليس هنا، إذ النزاع إنما هو في رجل استيقنا أنه لم يسم، وهذا لم نستيقن فيه ذلك بل هو الشك، والراجح أن يبقى العام على عمومه إلا أن يأتي مخصص، وهذا ليس بمخصص؛ لأنه لم يسلم من المعارضة.
وأوجه من هذا القول والذي أدين لله به هو قول ابن حزم بأن المسلم إذا ذبح ولم يسم على الذبيحة عمداً فإنه لا يأكل منها وهذا أيضاً قول الأحناف، وإذا لم يسم ناسياً فأهل الظاهر أيضاً قالوا: لا يأكل منها، هذا وهو الراجح الصحيح، لأن الله جل في علاه قال: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:١٢١]، والذي يؤكد ذلك (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عدي بن حاتم: إذا أرسلت كلبك المعلم (شرط وقيد) وذكرت اسم الله فكل)، ومفهوم المخالفة أنه إن أرسلت كلباً غير معلم فلا تأكل، فالصحيح الراجح أن الذي لم يذكر اسم الله على الذبيحة ذاكراً أو ناسياً فإنه لا يأكل منها؛ لأنها ميتة.
فإن قيل: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) والرجل قد نسي، قلنا: قد فرقنا قبل ذلك بين قاعدتي المأمورات والمحظورات، وهذا من المحظورات فيرفع الإثم فقط ويبقى الحكم، والدليل قال الله تعالى: ((وَلا تَأْكُلُوا)) وهذا نهي وما وجدنا المخصص فأخذنا بعموم قول الله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:١٢١].
وهذه المسألة تتعلق بهذا الأصل، وهي أن الرجل الذي قتل رجلاً عمداً ثم لاذ بالفرار ودخل الحرم وتعلق بأستار الكعبة فهل يقام عليه الحد أم لا؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين، ومدار الخلاف فيها هو قاعدة هل دلالة العام على أفراده ظنية أو قطعية؟ قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران:٩٦] إلى قوله تعالى: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:٩٧] وهذه تفيد العموم، فأي شخص يدخل الحرم يكون آمناً، وكان الأصل أن تعم الآية كل إنسان سواء كان كافراً أو مؤمناً أو وثنياً ولكن الكافر والوثني أخرجوا من العموم بقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة:٢٨] فبقى العموم في المسلم سواء كان سارقاً أو قاتلاً، أو زانياً، فكل هؤلاء داخلون في عموم: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:٩٧]، فاختلف العلماء إذا لم يستطيعوا أن يقتلوه إلا وهو متعلق بأستار الكعبة فهل يصح قتله أولا؟ أما الأحناف فعلى أصلهم لا بد أن يقولوا: لا يقام عليه الحد؛ لعموم قول الله تعالى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:٩٧] حتى ولو كان قاتلاً أو سارقاً أو زانياً؛ لأن كل هؤلاء داخلون تحت عموم {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:٩٧] فالأحناف يقولون: لا يجوز أن يقام عليه الحد في الحرم، ودلالة العام على الأفراد دلالة قطعية فلا احتمال للتخصيص، وهذا الذي رجحه ابن جرير الطبري وذكر أنهم قالوا: يضيق عليه ويمنع عنه الطعام والشراب حتى يخرج من الحرم فيقام الحد عليه.
أما الجمهور فقالوا: إنه يقتل في الحرم ويقتص منه في الحرم، ويقام عليه الحد في الحرم، وقالوا: إن دلالة العام على أفراده ظنية فيحتمل التخصيص وقد جاء المخصص، قلنا: ما هو المخصص؟ قالوا: القياس والأثر، قلنا: كيف ذلك؟ قالوا: قد أباح الله قتال المشركين في الحرم بدليل قول الله تعالى: (وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:١٩١] فأباح للنبي أن يقتلهم في الحرم.
وأيضًا ابن خطل الذي كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن وجدتموه متعلقاً بأستار الكعبة فاقتلوه) فوجدوه متعلقاً بأستار الكعبة فقالوا: يا رسول الله وجدناه قد تعلق بأستار الكعبة قال: (فاقتلوا)، فقتلوه وهو متعلق بأستار الكعبة.
فهذا يدل على أن الذي استحق القتل فإننا نقتله ونقتص منه في الحرم قياساً على الكافر، قلنا: كيف تقيسون المؤمن على الكافر؟ قالوا: هذا القياس محله إباحة الدم؛ لأن الكافر مباح الدم والمقتص منه مباح الدم، فبجامع إباحة الدم قلنا نقيم عليه الحد، وهذا الراجح الصحيح؛ لأن العموم قد يخصص بالقياس.