[معرفة الناسخ والمنسوخ وأثر ذلك على الخلاف الفقهي]
ثم يأتي بعد ذلك النسخ: ومثال ذلك: نكاح المتعة، والشيعة يقولون بجوازه أخذاً بقول ابن عباس.
أما جمهور العلماء فيقولون بحرمته؛ لأن نكاح المتعة كان مباحاً في أول الإسلام ثم نسخه النبي صلى الله عليه وسلم وحرمه بعد ذلك، إلى الأبد، يعني إلى يوم القيامة.
والحقيقة أن ابن عباس لم يقل بجواز المتعة مطلقاً، لكنه أجازها عند الضرورة، فإنه لما استفتي في هذه المسألة قال: هي كالميتة، يعني تجوز عند الضرورة.
ويجوز للرجل الذي يعيش في الخارج وخشي على نفسه الوقوع في الزنا أن يتزوج زواجاً بنية الطلاق، فإن عقد النكاح بهذه الصورة يكون صحيحاً بشرط أن تكون من أهل الكتاب، لكن هذا الزواج ليس من المروءة في شيء.
فالغرض المقصود: أن ابن عباس لم يعلم بالناسخ، ولكنه ضيق في زواج المتعة فلم يبحها إلا عند الضرورة، وقد سأله علي بن أبي طالب فقال: تفتي بالمتعة؟ قال: نعم، فقال: إنك رجل تائه.
فغلظ عليه القول لأنه دين الله تعالى؛ ولذلك فإن بعضهم يعيب علينا عندما نقول: إن قول الشيخ الفلاني والعلاني لا يعتبر لأنه خالف قول النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا ابن عباس الذي احتضنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، والذي كان يقدمه عمر بن الخطاب على كثير من الصحابة، يقول له علي بن أبي طالب معنفاً: إنك رجل تائه، إن رسول الله حرم نكاح المتعة يوم خيبر.
ليس هذا فحسب، بل عن عبد الله بن الزبير -والذي كان خليفة للمسلمين بالمبايعة لولا ما فعله الحجاج به- فقد قام مرةً خطيباً في الناس فقال: مالي أرى أناساً قد أعمى الله بصائرهم كما أعمى أبصارهم -يعرض بـ ابن عباس، وقد كان عمي في آخر عمره- قال: يفتون بالمتعة، والله لأنكلن بمن يقول ذلك.
فقام ابن عباس وسط الخطبة وقال: مالي أراك جلفاً جافياً كالأعراب -أي: غليظاً- فقال: افعلها! فوالله الذي لا إله إلا هو لأرجمنك بأحجارك.
والحق: أن ابن عباس كان مجتهداً في ذلك، والمشاجرة الكلامية بين عبد الله بن الزبير وابن عباس لا تفسد للود قضية أبداً، وإنما نقلناها حفاظاً على آثار السلف رضوان الله عليهم أجمعين.
فالغرض المقصود أنه عندما لا تبلغ العلماء والفقهاء مسألة الناسخ والمنسوخ اختلفوا في الحكم الفقهي.
وهذا يبين لك أهمية التأصيل العلمي لمثل هذه المسائل، فإن التفصيل هو الذي يجعل الإنسان يعلم كيف يصدر العلماء هذه الأحكام من الأدلة، ونحن سنتكلم في مسائل كمفهوم المخالفة، والقياس، والمصالح المرسلة، والإجماع، فمثلاً: هل من المتصور وقوع الإجماع بعد عصر الصحابة؟ مثال ذلك: مسألة الذهب المحلق التي عارض فيها فقهاء عصرنا الشيخ الألباني فقيل له: خالفت الإجماع، فرد عليهم: بأن الإجماع غير متصور بعد عصر الصحابة، واستدل بقول الإمام أحمد: وما يدريك لعل الناس قد اختلفوا.
وسنبين هذه المسائل التي هي محل خلاف بين فقهائنا وأصل منشأها، فإن أصلها يعود إلى الكلام عن الإجماع والقياس ومفهوم المخالفة وما أشبه ذلك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً.