[خلاصة مذهب الصوفية في الألوهية والربوبية وحقيقة ضلالهم وسببه]
قال رحمه الله تعالى:[ومن غاب عن هذا المشهد وعن المشهد الأول، ورأى قيام الله عز وجل على جميع الأشياء، وهو القيام على كل نفس بما كسبت، وتصرفه فيها وحكمه عليها].
قوله:(ومن غاب عن هذا المشهد) أي: الربوبية، ثم قال:(وعن المشهد الأول) يقصد الإلهية.
والشيخ يشير بذلك إلى ضلال المتصوفة وجهلهم، وهو رحمه الله تعالى كثيراً ما يبحث لهم عن معاذير؛ لأنه يرى أنهم وقعوا في الضلالة عن جهل.
وخلاصة مذهب هؤلاء أنهم يزعمون أن غاية مطلوبهم الانهماك في توحيد الربوبية، ولذلك استهانوا بتوحيد الإلهية، واستهانوا بالأمر والنهي، حتى زعم كثير منهم أنهم استغنوا بالمشهد الأول عن المشهد الثاني، بمعنى: أنهم حينما وصلوا إلى مرحلة معينة زعموا أنها انكشفت لهم أسرار الكون وانصهروا في القدر والربوبية، ولم يعودوا بحاجة إلى امتثال الأمر والنهي، فتركوا العمل بالشرع، وزعموا أن العمل بالشرع إنما يحتاجه أولئك الذين لم تصل قلوبهم إلى حد هذا المستوى من العبادة والسنة، أو من الانصهار في الربوبية، والعبادات والأوامر والنواهي والتكليفات الشرعية إنما هي للعوام الذين لم يصلوا في العبادة إلى حد انكشاف الأسرار الكونية لهم، أو الانصهار في الربوبية والقدر، وهذا مذهب فلسفي قديم في الديانات الفلسفية، كالديانات الهندية وغيرها، فغاية الواحد أن يصل إلى الانصهار في الربوبية، وأن تتحد مشاعره -بزعمه- بل حتى حركاته الإرادية واللاإرادية بالحركات الكونية، ويكون جزءاً من ذرات الكون، وكأنه صار بذلك إلى مستوى ربما يزعم فيه أنه ارتقى عن مستوى الأنبياء، بل أحياناً يزعم فيه أنه اتحد بالخالق تعالى الله عما يزعمون؛ لأن هذا المذهب وصل بهم إلى الاتحاد والحلول ووحدة الوجود، ومن هنا احتقروا دين الأنبياء واحتقروا الشرائع، واحتقروا الأخذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هنا زعم رءوسهم وفلاسفتهم أنهم استغنوا عن الشرع، وأن غاية من يصل إلى هذا المستوى هو أن يكون حقق مشهد الربوبية والانصهار في القدر، فلذلك قالوا: بالجبر، ولذلك قالوا: بالاستغناء عن الشرع، ولذلك احتقروا دين الأنبياء، ولذلك تركوا الأوامر والنواهي واستباحوا لأنفسهم ترك فرائض الله، والإعراض عن دين الله عز وجل، فالشيخ يقول:(ومن غاب عن هذا المشهد)، يعني: الربوبية، (وعن المشهد الأول)، يعني: الإلهية.
ثم أكمل الكلام واتضح بعد ذلك.
قال رحمه الله:[ومن غاب عن هذا المشهد وعن المشهد الأول، ورأى قيام الله عز وجل على جميع الأشياء، وهو القيام على كل نفس بما كسبت، وتصرفه فيها وحكمه عليها، فرأى الأشياء كلها منه صادرة عن نفاذ حكمه، وإرادته القدرية، فغاب بما لاحظ عن التمييز والفرق، وعطل الأمر والنهى والنبوات، ومرق من الإسلام مروق السهم من الرمية].
قوله:(فغاب بما لاحظ) هذا أيضاً من تعبيرات الصوفية، لكنه رد عليهم بعبارات يفهموها، ومعنى العبارة: فغاب بما لاحظ عن التمييز والفرق بين الربوبية والإلهية، وبين ما هو مطلوب من العبد وما ليس بمطلوب، وبين ما أمر الله به وما لم يأمر به، وأهم ذلك التفريق بين حقيقة الربوبية وحقيقة الإلهية، ولذلك لما لم يلاحظ التمييز والفرق تعطل الأمر والنهي؛ لأنه بزعمه أنه بالتحنث أو بالإقرار بالربوبية والمبالغة فيها لم يعد يحتاج إلى اعتبار الأمر والنهي والنبوات.
ثم قال:(ومرق من الإسلام مروق السهم من الرمية) يقصد بذلك غلاة المتصوفة الفلاسفة، وغلاة المتصوفة فلاسفة، كما أن غلاة الفلاسفة متصوفة، فالتلازم بينهم هو الغالب أمثال: الحلاج والكندي وابن الفارض والفارابي وابن رشد الأول، لكن ابن رشد لم يصل إلى هذه الدرجة إنما مال إليها ثم تركها، وكذلك ابن سبعين والسهروردي المقتول وابن عربي الطائي ومن سلك سبيلهم.
وكل هؤلاء قد ادعى هذه الدرجة، لكنهم يتفاوتون في التعبير عنها، ويتفاوتون في النزعة الفلسفية التي وصلوا بها -بزعمهم- إلى هذه المرحلة، ثم بعد ذلك منهم من استغنى عن العمل بالأمر والنهي، وأنهم ليسوا بحاجة لما جاء عن الأنبياء، ولذلك ادعى كثير منهم لنفسه أو لغيره -كل هؤلاء الذين ذكرتهم- أنه فاق مستوى الأنبياء كما صرح ابن عربي وغيره.