قال رحمه الله تعالى:[والمقصود أن هذه الطرق العقلية الفطرية هي التي جاء بها القرآن، واتفق العقل والشرع، وتلازم الرأي والسمع.
والمتفلسفة كـ ابن سينا والرازي ومن اتبعهما قالوا: إن طريق إثباته الاستدلال عليه بالممكنات، وإن الممكن لا بد له من واجب، قالوا: والوجود إما واجب وإما ممكن، والممكن لا بد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين، وهذه المقالة أحدثها ابن سينا، وركّبها من كلام المتكلمين وكلام سلفه، فإن المتكلمين قسّموا الوجود إلى قديم ومحدث، وقسّمه هو إلى واجب وممكن، وذلك أن الفلك عنده ليس محدثاً، بل زعم أنه ممكن، وهذا التقسيم لم يسبقه إليه أحد من الفلاسفة، بل حُذّاقهم عرفوا أنه خطأ، وأنه خالف سلفه وجمهور العقلاء وغيرهم، وقد بيّنا في مواضع أن القدم ووجوب الوجود متلازمان عند عامة العقلاء، الأولين والآخرين، ولم يُعرف عن طائفة منهم نزاع في ذلك إلا ما أحدثه هؤلاء، فإنا نشهد حدوث موجودات كثيرة، حدثت بعد أن لم تكن، ونشهد عدمها بعد أن كانت، وما كان معدوماً أو سيكون معدوماً لا يكون واجب الوجود، ولا قديماً أزلياً.
ثم إن هؤلاء إذا قُدِّر أنهم أثبتوا واجب الوجود فليس في دليلهم أنه مغاير للسماوات والأفلاك، وهذا مما بين تهافتهم فيه الغزالي وغيره، لكن عمدتهم أن الجسم لا يكون واجباً؛ لأنه مركب، والواجب لا يكون مركباً، هذا عمدتهم.
وقد بينا بطلان هذا من وجوه كثيرة، وما زال النُظّار يبينون فساد هذا القول كل بحسبه، كما بين الغزالي فساده بحسبه.
وذلك أن لفظ الواجب صار فيه اشتراك بين عدة معان: فيقال للموجود بنفسه الذي لا يقبل العدم، فتكون الذات واجبة والصفات واجبة، ويقال للموجود بنفسه والقائم بنفسه، فتكون الذات واجبة دون الصفات، ويقال لمبدع الممكنات، وهي المخلوقات، والمبدع لها هو الخالق، فيكون الواجب هو الذات المتصفة بتلك الصفات، والذات مجردة عن الصفات لم تخلق، والصفات مجردة عن الذات لم تخلق، ولهذا صار من سار خلفهم ممن يدعي التحقيق والعرفان، إلى أن جعل الواجب هو الوجود المطلق، كما قد بُسط القول عليه في مواضع].
يقصد الشيخ بالوجود المطلق الوجود الذي ليس له ذات وليس له حقيقة، وإنما هو وجود ذهني أو وجود عقلي أو روح أو قوة ونحو ذلك من التعبيرات التي يعبّر بها الفلاسفة عن وجود الخالق عز وجل، والشاهد أن تقرير الفلاسفة ومن سلك سبيلهم في مسلك المُحدَث والمُحدِث، أو الممكن والواجب -الذي أحدثه ابن سينا - ونحو هذا إنما هو من الألفاظ المجملة التي لها دلالات ناقصة ودلالات كاملة، كما أنها أيضاً من الأمور التي لا يفهمها إلا خاصة هؤلاء الفلاسفة ومن سلك سبيلهم، وعامة الناس يخوضون فيها بغير علم، ولهم في دلالاتها مفاهيم متباينة، فلذلك يجب على المسلم وعلى طالب العلم خاصة ألا يستعمل هذه العبارات التي لها لوازم باطلة، والغالب أنها تؤدي إلى الخروج من اليقين إلى الشك؛ لأن الإنسان ليس بحاجة إلى أن يعرف معنى واجب الوجود ليثبت وجود الله عز وجل، فوجود الله وجود فطري، وإنما نحن بحاجة إلى إثبات ذلك بالآيات الكونية لمن أنكر أو شك، أما ما عدا ذلك فإنما هي ألفاظ أشبه بالأوهام والتكلّفات التي لا تقرر عقيدة، بل أن من استعملها يخرج من اليقين إلى الشك، ولذلك نجد هؤلاء الذين يستعملون هذه العبارات كلهم أصحاب شك وريب نسأل الله العافية، بل ولم يصلوا إلى أي نتيجة، وأغلبهم وقعوا في محارات عقلية وذهنية أدت بهم إلى اليأس والقنوط وإلى إعلان الإفلاس، وكل الذين اشتهر عنهم هذا الأمر وخاصة الكبار منهم والمنظّرين أعلنوا الحيرة والاضطراب في العقيدة، بل ومنهم من أعلن ذلك عند الموت، وغير هؤلاء كثيرين جداً نسأل الله العافية؛ لأنهم تكلموا في أمور لا داعي لها، والقاعدة في ذلك: أن أوصاف الله عز وجل وأسماءه متقررة في الكتاب والسنة على أكمل وجه، ولسنا بحاجة إلى أن نستحدث ألفاظاً أو تعبيرات نعبّر بها عن أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله، وأن كل ما نتخيله أو نتصوره أو نتوهمه أو تنطق به ألسنتنا من الكمالات فإنما هو راجع إلى ألفاظ الشرع، بل إن من أسماء الله جوامع يرجع إليها كل ما تفلسف به المتفلسفون، ولو أنهم نزهوا أنفسهم ووصفوا الله بما وصف به نفسه من الكمالات التي تجمعها بعض العبارات مثل الله أو الحي أو القيوم أو العظيم أو الكبير -عبارات جامعة تجمع كل معاني الكمال- لكان خيراً لهم، وعليه فالناس ليسوا بحاجة إلى أن يقرروا وجود الله وكماله وأسمائه وصفاته بمثل هذه الألفاظ المبتدعة؛ لأنها أمور توقع الناس في الريب والشك، بل وتوقعهم في الإثم والكلام على الله بغير علم، وهذا من أعظم الإثم، بل من كبائر الذنوب، والغالب أنه في مثل هذا قد يصل إلى الكفر.
قال رحمه الله: [والمقصود هنا الكلام أولاً في أن سعادة العبد في كمال افتقاره إلى ربه واحتياجه إليه، أي: في أن يشهد ذلك ويعرفه، ويتصف معه بموجب ذلك من الذل والخ