للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سبب فساد احتجاج الخوارج والمعتزلة وغيرهم على نفي الشفاعة لأهل الكبائر وغير ذلك]

قال رحمه الله تعالى: [واحتج بكثير منه الخوارج والمعتزلة على منع الشفاعة لأهل الكبائر، إذ منعوا أن يُشفع لمن يستحق العذاب، أو أن يخرج من النار من يدخلها، ولم ينفوا الشفاعة لأهل الثواب في زيادة الثواب].

هذا تناقض، وعلى أي حال فمسألة احتجاج الخوارج والمعتزلة ومن سلك سبيلهم بظاهر هذه الآيات على منع الشفاعة مطلقاً، رغم أنهم تناقضوا فيما بعد فأثبتوا نوعاً من الشفاعة، أقول: إن هذا يعد من المناهج التي ضلت بها الفرق عموماً في الاستدلال، والتي حادوا بها عن الحق، فوقعوا في الخلط والخبط والتناقض والاضطراب، ورد الحق البيّن، بل رد المتواتر من النصوص، هذا المنهج المعوج يتمثل في الاستدلال ببعض النصوص دون الرجوع إلى القواعد الحاكمة لها، أو إلى النصوص الأخرى الحاكمة عليها، ذلك أن نصوص الشرع بعضها للقياس في القواعد العامة الحاكمة، وبعضها جزئياً لا بد أن يرد إلى القواعد الحاكمة، ثم إن نصوص الشرع لا بد أن يؤخذ بجملتها، ذلك أن المستدل إذا أراد أن يستدل على قضية معينة لا بد أن يستقرئ النصوص الثابتة كلها من القرآن والسنة، ثم يجمع النصوص الواردة في مسألة معينة وينظر فيها، فقد يجد فيها العام الذي له مخصص، وقد يجد فيها المطلق الذي له ما يقيده، وقد يجد فيها المجمل الذي له ما يفسره ويبينه، وقد يجد فيها الناسخ والمنسوخ إلى آخر ذلك.

وهذه القاعدة، أعني: رد النصوص بعضها إلى بعض، والاستدلال بمجموع النصوص، قاعدة قد اختلت عند الخوارج والمعتزلة، فصاروا يضربون النصوص بعضها ببعض، ولا يرجعون النصوص إلى النصوص الأخرى، وعلى سبيل المثال: نصوص الشفاعة هذه التي أوردها المؤلف رحمه الله، فتُشعر بأنه لا شفاعة مطلقاً، وذلك دون النظر إلى النصوص الأخرى، مثل قوله عز وجل: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:٢٨] وغيرها من النصوص التي تضع للشفاعة المثبتة شروطاً وضوابط، وتضع لمنع الشفاعة استثناءات، وهذه الاستثناءات هي التي تعرف بشروط الشفاعة المثبتة.

وعليه فأقول: إن هذا منهج تسلكه كثير من الفرق، فيستدلون ببعض النصوص دون النظر في البعض الآخر، وهذا الخلل قد يوجد عند الفرق، وقد يوجد عند أفراد ممن يقل فقههم في الدين، بمعنى: لا يظن ظان أنه لا يقع في هذا الانحراف في الاستدلال إلا الفرق، أو من كان على سبيل الفرق، بل قد يقع المتعالي المغرور وقليل الفقه وقليل العلم، ومن لم يتورع ومن لم يرجع إلى العلماء، ومن لم يأخذ العلم على أصوله الصحيحة، ولذلك ترون من يقع في نزعات الخوارج والمعتزلة وغيرهم من أفراد قد لا يكونون من أهل هذه الفرق، لكنهم سلكوا هذا المسلك، وهو عدم الأخذ بأصول الاستدلال، وعدم فقه منهج الاستدلال الذي عليه السلف، فترد النصوص بعضها إلى بعض، والنظر إلى النصوص بمجموعها، ولذلك يشترط النظر في القواعد العامة وفي مناهج الدين الرسوخ في العلم، وأهم ضوابط وشروط الرسوخ في العلم بعد الأمور القلبية من إخلاص وصدق وغيرها: الإحاطة بالنصوص، ولذلك ندرك خطورة المسالك الحديثة التي سلكها كثير من طلاب العلم، عندما حرصوا على التخصصات دون العلم الشمولي، فتجد الواحد منهم يتخصص في التفسير حتى يكون بارعاً فيه، لكنه يجهل الحديث، وهذه كارثة، وقد يتخصص في الفقه لكنه يجهل التفسير والحديث، وقد يتخصص في العقيدة لكنه يجهل الحديث والتفسير وهكذا.

ولذا فإن هذا المنهج المنحرف قد يوجد عند غير الفرق، فيوجد عند أفراد لم يكتمل علمهم، ولم يفقهوا قواعد الدين وقواعد الاستدلال، ويوجد عند الذين مالوا إلى التخصصات الجزئية في علوم الدين، وغفلوا عن أن علوم الدين متكاملة لا يستغني بعضها عن بعض، وإن كنا قد لا نقول: إنه يجب على طالب العلم أن يتبحر في كل علم من العلوم الشرعية، وقد يتخصص في علم من العلوم، لكن يجب عليه أن يلم بأصول العلوم الشرعية الأخرى، أعني: الأصول الضرورية التي لا بد أن يلم بها، فإذا كان متخصصاً في علوم الحديث مثلاً فيجب عليه أن يلم بقواعد التفسير وعلوم القرآن والعقيدة، وإذا كان متخصصاً في العقيدة فلا بد أن يلم إلماماً جيداً بأصول العلوم الأخرى بما في ذلك اللغة العربية، إذ إن اللغة العربية شرط لجميع العلوم الشرعية، شرط لاستيعابها وفقهها والنظر والاستدلال، ولذلك قال كثير من السلف: إن كثيراً من الفرق قد أتيت في عدم فهمها لقواعد الاستدلال ومناهج الدين من العجمة، فلم يفقهوا العربية، فنظروا في النصوص بعجمتهم وبعدم فقههم العربية، فضلوا فيما انتزعوه من أحكام ومواقف وأقوال ومقالات، فضلوا بها عن السنة وأهلها.

والشاهد هنا: أن هذه النصوص والآيات ظاهرها منع الشفاعة مطلقاً لمن لم يرد هذه النصوص إلى النصوص الأخرى التي فيها الاستثناء، وهو أن الله عز وجل يقبل الشفاعة بشروط وبأحوال لأناس معينين يرتضيهم الله عز وجل ويرضى عنهم، وهذا الاستثناء لا يخل بالقاعدة، لاسيما وأن الذين تشملهم الشفاعة إلى مجموع الكفار عددهم قليل جداً، فيكون الأصل في الذين لا يستحقون الشفاعة منع الشفاعة م

<<  <  ج: ص:  >  >>