[حكم الاستشفاع والتوسل به عليه الصلاة والسلام في حياته وبعد مماته]
ثم قال رحمه الله: [وأما من أقر بشفاعته وأنكر ما كان الصحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به، كما رواه البخاري في صحيحه عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بـ العباس بن عبد المطلب، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون.
وفي سنن أبي داود وغيره:(أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال، فادع الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال: ويحك! إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك)، وذكر تمام الحديث فأنكر قوله:(نستشفع بالله عليك)، ولم ينكر قوله:(نستشفع بك على الله)، بل أقره عليه، فعلم جوازه، فمن أنكر هذا فهو ضال مخطئ مبتدع، وفي تكفيره نزاع وتفصيل.
وأما من أقر بما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع من شفاعته والتوسل به ونحو ذلك، ولكن قال: لا يدعى إلا الله، وأن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله لا تطلب إلا منه، مثل غفران الذنوب، وهداية القلوب، وإنزال المطر، وإنبات النبات ونحو ذلك، فهذا مصيب في ذلك، بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضاً، كما قال الله تعالى:{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ}[آل عمران:١٣٥]، وقال:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[القصص:٥٦]، وكما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}[فاطر:٣]، وكما قال تعالى:{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}[آل عمران:١٢٦]، وقال:{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة:٤٠]].
قبل أن يقول الشيخ القول الفصل في موضوع مقدمات الشفاعة هنا، فإنه سيتكلم عن هذا في فصول قادمة كثيرة، وسيأتي قريباً إن شاء الله كل كتاب (التوسل والوسيلة).
لكن أحب أن أنبه على أن الشيخ هنا لم يفصح عن مسألة قد ينساها بعض الناس من خلال قراءة هذا المقطع، ألا وهي: أنه حينما ذكر استشفاع الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنه يقصد استشفاعهم به وهو حي، وهذا أمر معلوم بالضرورة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يستشفعون به وهو ميت، والاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم أنواع كثيرة، لكن أهمها: طلب الشفاعة منه يوم القيامة، وهذا أمر يحدث بشروطه وفي وقته، ولا يحدث قبل القيامة، وكون الخلائق يطلبون منه صلى الله عليه وسلم الشفاعة لهم عند الله حتى يفصل بينهم، وكون أهل الجنة -نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم- يطلبون منه أن يشفع لهم عند ربهم حتى يفتح لهم الجنة، وكونه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته بأن يخرجوا من النار، فكل ذلك من الشفاعات في الآخرة التي لا تحدث في الدنيا، وإنما تحدث يوم القيامة، لكن بشروطها، ولا مزيد عما ورد فيها.
وأما الشفاعة به صلى الله عليه وسلم في الدنيا فهي على نوعين: الأول: الاستشفاع به عليه الصلاة والسلام وهو حي، بمعنى: أن يطلب منه أن يدعو الله عز وجل، سواء لإنسان بذاته أو للمسلمين عموماً في نفع عام أو نفع خاص، فهذا جائز ومشروع، والصحابة كانوا يفعلونه.
الثانية: الاستشفاع به أو بدعائه وهو ميت، وهذا لا شك أنه من أبواب الشرك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يعد يستجيب لأحد، وهو كغيره من سائر الأموات، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد خص ببعض الخصائص، كأن يرد السلام على من سلَّم عليه في أي مكان، فهذه الخصيصة لا دخل لها في مسألة استجابة الدعاء، وإنما هذه خاصة برد السلام فقط.
فإذاً: لا يجوز ولا يشرع، بل من البدع المغلظة وأحياناً من الشرك دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستشفاع به وهو ميت، سواء عند قبره، أو بعيداً عن قبره.