[أول درجات الافتقار هو الافتقار إلى الربوبية]
قال رحمه الله تعالى: [وأما فقر المخلوقات إلى الله بمعنى: حاجتها كلها إليه، وأنه لا وجود لها ولا شيء من صفاتها وأفعالها إلا به فهذا أول درجات الافتقار، وهو افتقارها إلى ربوبيته لها، وخلقه وإتقانه، وبهذا الاعتبار كانت مملوكة له، وله سبحانه الملك والحمد.
وهذا معلوم عند كل من آمن بالله ورسله الإيمان الواجب، فالحدوث دليل افتقار الأشياء إلى محدثها، وكذلك حاجاتها إلى محدثها بعد إحداثه لها دليل افتقارها، فإن الحاجة إلى الرزق دليل افتقار المرزوق إلى الخالق الرازق.
والصواب أن الأشياء مفتقرة إلى الخالق لذواتها لا لأمر آخر جعلها مفتقرة إليه، بل فقرها لازم لها، لا يمكن أن تكون غير مفتقرة إليه، كما أن غَنَاء الرب وصف لازم له لا يمكن أن يكون غير غني، فهو غني بنفسه لا بوصف جعله غنياً، وفقر الأشياء إلى الخالق وصف لها، وهي معدومة وهي موجودة، فإذا كانت معدومة فقيل عن مطر يُنتظر نزوله: وهو مفتقر إلى الخالق كان معناه: أنه لا يوجد إلا بالخالق، هذا قول الجمهور من نظار المسلمين وغيرهم، وهذا الافتقار أمر معلوم بالعقل، وما أثبته القرآن من استسلام المخلوقات وسجودها وتسبيحها وقنوتها، أمر زائد على هذا عند عامة المسلمين من السلف وجمهور الخلف.
ولكن طائفة تدعي أن افتقارها، وخضوعها، وخلقها وجريان المشيئة عليها هو تسبيحها وقنوتها، وإن كان ذلك بلسان الحال، ولكونها دلالة شاهدة للخالق جل جلاله، وقل للأرض: من فجر أنهارها، وغرس أشجارها، وأخرج نباتها وثمارها، فإن لم تجبك حواراً وإلا أجابتك اعتباراً، وهذا يقوله الغزالي وغيره.
وهو أحد الوجوه التي ذكرها أبو بكر بن الأنباري في قوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:١١٦] قال: كل مخلوق قانت له باشر صنعته فيه وأجرى أحكامه عليه، فذلك دليل على ذله لربه.
وهو الذي ذكره الزجاج في قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:٨٣] قال: إسلام الكل خضوعهم لنفاذ أمره في جِبِلِّهم لا يقدر أحد يمتنع من جبلة جبله الله عليها، وهذا المعنى صحيح، لكن الصواب الذي عليه جمهور علماء السلف والخلف: أن القنوت والاستسلام والتسبيح أمر زائد على ذلك، وهذا كقول بعضهم: إن سجود الكاره وذله وانقياده لما يريده الله منه من عافية ومرض وغنى وفقر، وكما قال بعضهم في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:٤٤]، قال: تسبيحه دلالته على صانعه، فتوجب بذلك تسبيحاً من غيره، والصواب أن لها تسبيحاً وسجوداً بحسبها].
يقصد الشيخ بهذا أن التسبيح الذي ذكره الله عز وجل في المخلوقات هو تسبيح حقيقي، فكل مخلوق يسبح بحسب ما فطره الله عليه من نوع التسبيح، وأن هذا غير الخضوع الكوني العام؛ لأن أهل الكلام الذين فسّروا التسبيح بالخضوع الكوني العام فسّروا التسبيح ببعض وجوهه وببعض صوره، لكن الخبر ورد بأنه ما من شيء إلا يسبح بحمد الله عز وجل، وهو خبر زائد عن مجرد خضوع واستسلام الربوبية، وإن كان كل ذلك عبادة وطاعة وانقياد، لكن الطاعة الغريزية القسرية التي هي سنة من سنن الكون أمر مشترك عند جميع المخلوقات، وأما التسبيح الذي هو تسبيح العبادة فهو أمر زائد، فما من شيء إلا يسبح الله عز وجل بنوع غيبي يعلمه الله، وعلى هذا فجميع المخلوقات لها تسبيح يليق بها، وربما يكون هذا التسبيح مما يدركه بعض الناس في بعض الأشياء، وربما يكون مما لا يُدرك، وربما تكون حركة الأشجار هي نوع من التسبيح، وربما يكون غير ذلك، فهذا أمر غيبي لا نستطيع أن نتحكم به.
إذاً: تسبيح الكائنات والمخلوقات لله عز وجل هو أمر زائد عن مجرد الخضوع العام والربوبية والاستسلام لله عز وجل، وهذا هو الراجح كما ذكره الشيخ، مع أن الشيخ لم ينكر ما قالوه، بل قال: إن هذا المعنى صحيح، وهو: أن هذه المخلوقات لافتقارها عابدة لله عز وجل بخضوعها وتذللها له سبحانه وتعالى، وهذا هو مقتضى القيومية لله عز وجل، وكونه القائم على كل شيء.
وأما المكلّفون فإن الله عز وجل قد ابتلاهم، فمنهم من يسبّح وهو العبد الطائع المطيع، ومنهم من لا يسبّح وهو العبد الكافر المعاند نسأل الله العافية، بينما المخلوقات الأخرى -كما ذكرنا- فكلها تسبح بحمد الله عز وجل تسبيحاً يليق بها، وبكيفية لا نعلمها.
قال رحمه الله تعالى: [والمقصود أن فقر المخلوقات إلى الخالق، ودلالتها عليه وشهادتها له، أمر فطري فطر الله عليه عباده، كما أنه فطرهم على الإقرار به بدون هذه الآيات، كما قد بُسط الكلام على هذا في مواضع، وبُين الفرق بين دلالة الآيات ودلالة القياس الشمولي والتمثيلي، فإن القياس البرهاني العقلي، سواء صيغ بلفظ الشمول كالأشكال المنطقية، أو صيغ بلفظ التمثيل، وبُيّن أن الجامع هو علة الحكم ويلزم ثبوت الحكم أينما وجد، وقد بسطنا الكلام على صورة القياسين في غير هذا الموضع.
والتحقيق: أن العلم بأن المُحدث لا بد له من محدث هو علم فطري ضروري في