[كون العبادة تجلب النعيم الحسي والمعنوي في الدار الآخرة من النظر إلى وجه الله تعالى وغير ذلك]
قال رحمه الله تعالى: [الأصل الثاني: النعيم في الدار الآخرة أيضاً مثل النظر إليه، لا كما يزعم طائفة من أهل الكلام ونحوهم أنه لا نعيم ولا لذة إلا بالمخلوق من المأكول والمشروب والمنكوح ونحو ذلك، بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق سبحانه وتعالى، كما في الدعاء المأثور: (اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة) رواه النسائي وغيره، وفي صحيح مسلم وغيره.
عن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟! ألم يبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟! قال: فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه سبحانه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه.
وهو الزيادة).
فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله في الجنة لم يعطهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وإنما يكون أحب إليهم؛ لأن تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره، فإن اللذة تتبع الشعور بالمحبوب، فكلما كان الشيء أحب إلى الإنسان كان حصوله ألذ له، وتنعمه به أعظم.
وروي أن يوم الجمعة يوم المزيد، وهو يوم الجمعة من أيام الآخرة، وفي الأحاديث والآثار ما يصدق هذا، قال الله تعالى في حق الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:١٥ - ١٦] فعذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب، ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات، ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم منه تعالى.
وهذان الأصلان ثابتان في الكتاب والسنة، وعليهما أهل العلم والإيمان، ويتكلم فيهما مشايخ الصوفية والعارفون، وعليهما أهل السنة والجماعة، وعوام الأمة، وذلك من فطرة الله التي فطر الناس عليها].
يقصد بالأصلين هنا: أولاً: أن الإيمان بالله عز وجل هو غذاء الروح والقلب، بمعنى: أن الإنسان يجد فيه القوة والسعادة والطمأنينة والأمن، بل وكل معاني السعادة التي يسعى إليها الناس ويطمحون إليها، وهذا في الدنيا.
ثانياً: أنه بعبادة الله عز وجل يحصل النعيم في الآخرة بنوعيه: التنعم بالمخلوقات، والنعيم بما يسعد الله به عباده برؤيته سبحانه، نسأل الله أن يمتعنا جميعاً بذلك.
فهذان الأصلان يغفل عنهما كثير من الناس، وكثير من الذين تكلموا عن مسائل التكليف والعبادة والأحكام، ولا نجد إدراك هذا بشكل واضح إلا عند بعض الأئمة، بل عند أئمة السنة، ولـ شيخ الإسلام رحمه الله في هذا قصة ملخصها تدل على إدراكه لهذا المعنى وسعيه إلى هذا، وهو أنه كان له ورد طويل يقوله في يومه، وفي يوم من الأيام كان معه تلاميذ ومنهم ابن القيم، ويظهر لي أنهم كانوا في مهمة يريدون أن يذهبوا إليها، لكنه بعد الصلاة -أي: شيخ الإسلام - جلس طويلاً يقول ورده، فنسي من حوله حتى ارتفعت الشمس، وطال عليهم الوقت، واستحوا أن يقولوا له شيئاً، وهو مستمر في اللجوء إلى الله عز وجل، ولما التفت فطن أنه قد نسيهم فقال: هذا غذائي الذي أتغذى به.
يعني: أنه انسجم وسمت روحه واطمأن قلبه بهذه العادة حتى نسي شغله وحبس الناس من حوله، فهذا يعتبر أنموذجاً للشعور في التغذي بعبادة الله عز وجل.
قال رحمه الله: [وقد يحتجون على من ينكرها بالنصوص والآثار تارة، وبالذوق والوجد أخرى، إذا أنكر اللذة فإن ذوقها ووجدها ينفي إنكارها، وقد يحتجون بالقياس في الأمثال تارة، وهي الأقيسة العقلية].