الثانية: الكلام عن السماع، والشيخ هنا رحمه الله أراد أن يبين أن كثيراً من الذين وقعوا في التعبد بما لا يرضي الله عز وجل، وخاصة أصحاب الطرق الذين كان الأمر عندهم فيه التباس، أي: أنهم أخذوا ما أمر الله به من تحسين الصوت بالقرآن، ومن سماع القرآن، وما ينبغي فيه من آداب، وما ينبغي فيه من الأمور الغيبية والأمور الأخرى، فخلطوا هذا بكل صوت يحلو لهم، وظنوا أنهم متعبدون بالسماع إطلاقاً، أي: سماع أي شيء حتى غير القرآن، وظنوا أن التلذذ -وهو استدراج من الشيطان- بالسماع والأصوات المطربة نوع من العبادة، ثم أيضاً نقلهم الشيطان إلى أمر آخر، وهو أنهم صاروا يتلذذون بالنظر إلى الصور المحرمة، حتى إن بعضهم نسأل الله العافية صار يفعل الفواحش ويظن أن هذه من الكرامات! وهذا من مداخل الشيطان عليهم، بل حتى صاروا يتعبدون الله بالكبائر نسأل الله العافية.
كما أنهم أيضاً أدخلوا من باب التعبد بالسماع كثيراً من البدع يقررون فيها الباطل، مثل: تقديس الرسل والأولياء والصالحين، والتغني بأصولهم ومبادئهم الفاسدة بأشعار مطربة، فتدخل قلوب العامة وتشربها فتكون ذريعة إلى البدع بل إلى الكفر، ويدّعون أن ذلك من باب السماع الذي يشبه تأمل القرآن والسماع لآياته، وفرق بين هذا وذاك.
إذاً: هم توسعوا في معنى السماع حتى أدخلوا الكفريات والشركيات والبدع، وصاروا غالباً لا يتعبدون الله إلا بهذا الأسلوب.
قال رحمه الله تعالى: [والعبادة: عبادة الله وحده لا شريك له {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ}[النور:٣٦ - ٣٧]، وهذا المعنى يقرر قاعدة اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، وينهى أن يشبّه الأمر الديني الشرعي بالطبيعي البدعي، لما بينهما من القدر المشترك كالصوت الحسن ليس هو وحده مشروعاً حتى ينضم إليه القدر المميز كحروف القرآن، فيصير المجموع من المشترك والمميز هو الدين النافع].
قوله:(يصير المجموع)، بمعنى: أنهم عندما خلطوا بين القدر الشرعي والقدر غير الشرعي صار هذا من المجموع المشترك، لكن يتميز الحق بأن السماع السني الذي يكون على ما يرضي الله عز وجل، فهو سماع لآيات الله عز وجل بالضوابط الشرعية المعروفة.
(والمميز) يعني: كلام الله عز وجل الذي يستحق أن يتغنى به، وأن يُسمع سماعاً تتوافر فيه الشروط والضوابط الشرعية.
وأما التعبد بالسماعات الأخرى بما يشبه التعبد بالقرآن، فلا شك أنه من مناهج أهل البدع التي ضلوا بها عن الحق نسأل الله العافية.
وقد ذكر الشيخ في المقطع السابق أن العبادة -من خلال الأمثلة التي ذكرها- شاملة لجميع ما يتوجه به المسلم إلى الله عز وجل، فأركان الإسلام ذكر منها: الصلاة والزكاة والشهادتين والحج، وكذلك الصيام، وعلى هذا فإن أركان الإسلام لا شك أنه يجتمع فيها العمل القلبي وعمل الجوارح، والعمل القلبي هو من أنواع العبادة في أركان الإسلام، وكذلك عمل الجوارح، وليس الأمر متعلقاً أيضاً فقط بالأركان، أعني: أركان الإيمان وأركان الإسلام والأحوال القلبية، بل كل حركات المسلم وسكناته التي يحتسبها لله عز وجل كلها عبادة، حتى الأمور الدنيوية المعاشية، فإذا وجدت فيها النية الخالصة، وهي على ما يرضي الله عز وجل وعلى شرعه، فهي من أنواع العبادة، ولذلك أشار الشيخ إلى طلب الرزق، سواء كان طلب الرزق بالدعاء أو بالأسلوب الشرعي المعتاد، فكل ذلك من أنواع العبادة؛ لأن العبادة تشمل كل ما يعمله المسلم من أعمال القلب وأعمال الجوارح، لكن هناك ما هو أقرب إلى معاني العبادة المحضة، فالأعمال القلبية هي عبادة محضة، وأعمال الجوارح هي ثمرات للعبادة، ويختلط فيها المعنيين: التوجه والقصد، والعمل الدنيوي البحت، والله أعلم.